يرتبط المكان كعنصر حكائي بزمن القصة حد التمازج بها. وكفضاء روائي هو الذي يكتبها، ويحدد مسار خطية السرد. ولهذه الأسباب الموضوعية والوجدانية تبدو «مكة» بسطوتها الروحانية هي المكان الأكثر جاذبية للروائي المتحدر من أصل مكي، الذي يحاول من الوجهة السيميائية تثبيت الدلالات الشاملة لطهورية ذلك الفضاء من خلال مروياته. لا لأنه يراها البقعة الأقدس وحسب، بل لأنه يميل إلى الاعتقاد بأنها حضّانة بشرية على درجة من الخصوبة والغنى. وبالتالي فهي منبع لا ينضب للحكايات. كما يستشف ذلك الميل مما تستبطنه معظم الروايات من أحاسيس تفصح عن اقتناع بجدارة هذا المكان وفرادته واختلافه عن بقية الفضاءات. على هذا الأساس تنكتب أغلب الروايات. فالفضاء النفسي للرواية المكية ينهمر على الفضاء المادي ويردمه، ليطبعه بمزاياه. حيث يُلاحظ تعويل أغلب الروائيين على قدسية المبنى ونزاهة المعاني التي تحف به، عند ملاحظة حركة الشخصيات المؤمكنة التي تتخذ من ذلك الفضاء مسرحاً درامياً لحضورها وحاضناً لتشكّلها. ومن خلال ذلك الحراك تنبث موجات من الصور والمفاهيم التي ترسم سمة المكان الذي تحتله الشخصيات بقيمها المعلنة، وما يتأتى عن ذلك الحضور من دلالات. وذلك بعد أن استعاد الروائي المكي فكرة وإحساس الكتابة عن مكة، عوضاً عن نفي ذاته وكتابته في الفضاءات الاغترابية، كما كان يحدث في السابق. وتحت شفافية ذلك الغطاء المقدس يتم تسريب إشارات المدنّس، في ما يشبه الاستنطاق المبيت للمكان. فعندما تستطرد رجاء عالم في وصف الأجواء الروحانية للفضاء المكي، وتُسرف في تعداد مآثره وتمفصلاته الطبوغرافية والدلالية بحنين جارف وعاطفة جياشة، تخدشه بآلام ومآسي العبودية وتجارة الرقيق. تماماً كما يقوّض محمود تراوري قداسة المكان ويشرخ تماثيل الشخصيات المصقولة بالتقوى من ذات الخاصرة. أو كما يربك عبدالله التعزي الصورة المثالية لما حول الحرم، بحكايات وموبقات الشوارع الخلفية. ومن ذات المنطلق يأخذ صلاح القرشي الحدث إلى منطقة بعيدة عن المدار الروحي ليتمكن من سرد الوقائع اليومية بحرية أكثر، أو يعيدها إلى مستواها الاعتيادي. إن هذا الهوس بسرد مكة له ما يقابله على أرض الواقع من شفاهيات، فهناك اعتقاد راسخ عند عشاق الفضاء المكي، بأن هذا المصهر الكوزموبوليتي لا يحتضن المكان الأقدس وحسب، بل تصطخب فيه حيوات من الأعراق والأجناس كافة في شكل مثير وجاذب. بمعنى أن العلاقات الفصيحة والمستترة ما بين المكاني والاجتماعي هو الذي ينتج ذلك الجدل الأخاذ. وهذا هو بالتحديد ما يجعله -من وجهة نظرهم- جديراً بالسرد. وتحويل شفاهيات ناسه الصغيرة إلى روايات ذات طابع بنائي، يتم بموجبها تحليل نظام العلاقات داخله على قاعدة الهدم والبناء أو المحو والكتابة، كما تفترض الرواية الحديثة. ولا شك أن هذا الاستنتاج فيه بعض الوجاهة المحرضة للمجادلة، إلا أن المنتج الروائي المتعلق بمكة، يحتاج إلى فحص على مسطرة السرد. وذلك للاسترشاد بالنص الروائي ذاته في الإفصاح عن بنية المكان الواقعية، وما يقابلها كفضاء روائي. إذ يُلاحظ أن الكتابة بمعظمها تتموضع على حافة استذكار الماضي كمعادل للأصالة والقداسة. وهو الأمر الذي يحتم الارتداد للمكوّن المكاني المتمثل في الحارة الشعبية، بما تختزنه تلك الحاوية من قيم التخلف والجهل الازدحام والاحتراب. وكأن الروائي يعيد إنتاج النظام القديم من خلال تنصيصه. كما أن تلك الطبوغرافيا المتفق عليها نصياً وعاطفياً هي التي تحدد منسوب الاختلاف الاجتماعي والتباين الآيديولوجي. وكأن هذه النصوص الروائية منذورة في المقام الأول لإشباع الحالة النفسية عند الروائي ذاته، ثم تثبيت منظومة تصورات القارئ واعتقاداته حول ذلك العالم المعلوم مظهراً والمجهول جوهراً. ويبدو أن تشكيل البنية المكانية تتأسس في أغلب الروايات على سرد سيرة الحارة الشعبية بما هي فضاء الحياة الاعتيادية اليومية، على قاعدة انعزالها عن العالم، والاكتفاء بصراعاتها وتناقضاتها الداخلية. الأمر الذي يوحي بأن الانغلاق هو بعض ضروراتها الداخلية التي تخضع لها، أو هو هويتها، المحكومة بمنظومة من القيود الهندسية. كما تنرسم تلك المعالم بدقة تقريرية من خلال الملفوظات الوصفية التي تختصر مجموع الدلالات المادية واللامادية. وتحيل إلى كيفية انبناء المكان، في شكل فارط في الواقعية، وبمعزل عن أي شطحة تخييلية، لئلا تفقد مكة المعاشة شيئاً من رصيدها إزاء مكة المتخيّلة. بمعنى ألا تخسر في السياق الروائي شيئاً من دلالتها الرمزية، ولا تتزعزع سطوتها الروحية. هكذا تتجلى النزعة المشهدية عند الروائي المكي. التي من خلالها يستدمج خريطة مكة الطبوغرافية بمنطق حكايته، ويصهرها بخطية سرده. إذ لا تنهض تلك التفاصيل بمهمة رسم الصفات المكانية وحسب، إنما يُراد منها إضفاء الطابع الدلالي على المكان الموصوف، وفتح خزان العلاقات البنيوية المتأتية من التماس مع ذلك الفضاء. بمعنى توليد علاقة جدلية دافئة ما بين الصفة الطبوغرافية وما تشير إليه من دلالات كامنة. الأمر الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى فقدان الصورة المشخّصة لمكة، وتحويلها، بصورة واعية أو لا واعية، إلى مجرد صدى للحظة رومانسية. حيث تضغط تلك اللحظة عليه لتحتويه وتمارس عليه تأثيراً يكاد يفقده قوته كعنصر حكائي، بل قد تحوله أحياناً إلى فضاء سجني لحيواته، وليس مكاناً طوعياً لإقامتهم. الفضاء المكاني ليس مجرد لحظة رومانسية يمكن الارتداد إليها. أي أنه ليس مصفوفة من المباني المأهولة بجثامين الناس، بل يتضمن مشاعرهم واعتقاداتهم وتصوراتهم. وهي مكونات لا مرئية تسيل بالضرورة على الفضاء وتؤثثه. بمعنى أن مكة المستدعاة روائياً من خلال بانوراما الحارات الشعبية، لا بد أن تدخل في علاقة من التلازم البنيوي مع مزاج وسجايا وطبائع الشخصيات التي تتحرك عليها. وهذا يستوجب أن يضطلع الفضاء المكي روائياً بمهمة التنظيم الدرامي للأحداث، التي يُراد من خلالها تقديم صورة حيّة للمكان. لا أن يكتفي الروائي بالتوصيف البراني الذي لا يستفز جينات المكان. وعليه يُفترض توليد حوار بنائي ما بين التضاريسي والهندسي والجغرافي من جهة، مقابل الاجتماعي. ولا شك أن بعض الروايات استعرضت صورة جانبية هامة لمكة. إلا أنها لم تنفذ إلى منظومة العلاقات الراسبة في عمق المكان، الملتصقة بالمباني والديكورات. ولم تستنطق سوسيولوجيا الشارع، الذي تجري فيه الأحداث وتتشكل الشخصيات. ربما لأنها قاربت المكوّن المكاني المكي بشيء من الحذر والارتباك، ولم تلامس جوهر وعمق التناقضات البنيوية المتعددة. حيث كُتبت في الغالب من منطلق الاستجابة المستعجلة للاعتداد الشعبي بالمكان، وهو الأمر الذي أكسبها بعض سمات الشعرية وقوضّها في الآن نفسه. بمعنى أن التجنيح الاستيهامي والاغتراف المباشر من المحكي أفقدها تعاليات المفهوم المتعلق بسطوة الأمكنة. وهو الأمر الذي قلّل في بعض الروايات روح الكتابة المكانية، وانزاح بها إلى تجسيد المناطقية. لقد حققت اللحظة الرومانسية الموصوفة في معظم الروايات المكية بعض الدراما الإنسانية التي عناها أرسطو، لأنها استذكرت مكة كمكان لالتقاء الشخصيات وارتطامها ببعضها، بمعنى أن الرؤية المكانية شكلت ضرورة لنمو السرد. كما تم بناء الفضاء الروائي المتحكم في الوظيفة الحكائية من خلال وجهات نظر متباينة، لأن المكان المكي يعاش أصلاً على قاعدة التعدّد والاختلاف والتشظي. إلا أنه من الوجهة الفنية، لم يتحقق من خلال لغة قادرة على المزج الشعوري الواعي ما بين بُناه الروحية والشكلية. * ناقد سعودي.