أعدت قراءة مقال للروائية أحلام مستغانمي كنت قرأته تحت عنوان «بلاد المطربين أوطاني»، وتناقلتْه المواقع والصحف في ما بعد تحت عناوين متنوعة: «دي دي واه»، «أواه ثم أواه... ما زال من يسألني عن معنى دي دي واه». لم أستطع أن أحدد بالضبط الارتسام الذي كانت قد خلفته فيّ قراءة المقال، وما زالت تخلفه. ربما لأنها تركت لديّ شعوراً بالإعجاب ممزوجاً بقليل من التحفظ، لم أستطع، وربما ولن أستطيع، أن أبرره. تعبر الكاتبة في مقالها عن إحساسها بأنها لم تعد تنتسب إلى وطن، بقدر ما غدت تُنسب إلى مطرب، أو إلى الوطن عبر مطرب. فهي في أعين من تلتقيهم، ليست جزائرية، وإنما هي «من بلاد الشاب خالد». وهي تتحسر عما آلت إليه الأمور منذ الخمسينات التي كان الجزائري ينسب فيها إلى بلد الأمير عبدالقادر، حتى الستينات التي صار ينتسب فيها إلى أحمد بن بلة وجميلة بوحريد، إلى السبعينات حيث أصبح يُنسب إلى بلد هواري بومدين والمليون شهيد. أما اليوم، فالجزائري، بل العربي بصفة عامة، ينسب إلى مطربة، و «إلى المغني الذي يمثله في ستار أكاديمي». لا تقتصر الكاتبة المقتدرة إذاً على وصف ما آلت إليه الأمور، وإنما نشعر أن لديها نوعاً من الاستنكار، وبالتالي، فهي لم تمتنع عن إصدار حكم قيمة. وربما من أجل ذلك فهي تكتب في بداية المقال أنها جاءت إلى المشرق «في الزمن الخطأ». غير أننا، لو أردنا أن نحتفظ بحكم القيمة هذا، فربما أمكننا أن نطلق هذه العبارة اليوم على جيل بكامله، بل على العصر فنقول إنه «الزمن الخطأ». ولا أقصد بطبيعة الحال، المجتمعات العربية وحدها، وإنما جيل اليوم عبر العالم. فمن لا ينتسب منا إلى الوطن عبر مطرب أو مطربة، فهو ينتسب إليه عبر نجم رياضي، بل حتى نجم تلفزيوني أو فرقة كروية. فإسبانيا في ذهن الكثيرين اليوم، ليست بلاد ثيرفانتيس ولا لوركا، وإنما هي بلد الثنائي البارسا /الريال. قبل أعوام قليلة، عندما طلب من الفرنسيين أن يصوّتوا على الرجل الأول في فرنسا، نازع ديغول المرتبة كل من النجمين الرياضيين زين الدين زيدان ويانيك نوها، ونجم الشاشة الصغيرة ميشيل دروكير. كل سياسيي العالم يدركون اليوم هذا الأمر أتم الإدراك، حتى الذين لا يشاهدون منهم أية مباراة رياضية. وهو أن البلد أصبح يُعْرف ويُعَرّف بفريقه الكروي، وبعدد الميداليات الذهبية التى أحرزها... وأيضاً بنجومه في الغناء. عند الساهرين على أمر الدول، هذا ليس خطأ ولا صواباً، وإنما هو استثمار سياحي وسياسي، فهو ما يعطي اليوم للدولة مكانتها، حتى لا نقول وجودها في العالم. وهو ما يبرر الأموال الطائلة التي تصرف على تكوين الرياضيين وتدريبهم، وما يفسر العناية الفائقة التي تحاط بالنجوم مهما كان ميدان تألقهم. من الطبيعي ربما أن يخالجنا، والحالة هذه، نوع من التحسر، بل نوع من الاستنكار والاستياء، لأننا نعلم أن الضحية هنا هو ذاك الذي تتحسر عليه الروائية المقتدرة، والذي نتحسر عليه معها بطبيعة الحال، وأعني القيم «الرفيعة» والسند «الحقيقي» الذي كان يجعل من فرنسا بلد فيكتور هوغو، وانكلترا بلد شكسبير وألمانيا بلاد غوته، وروسيا بلد بوشكين وتولستوي، والجزائر بلد المليون شهيد. ولكن لم لا نقول إن وهم الخلود الذي طالما تشبثنا به، والذي يجعلنا لا نعطي قيمة إلا للوازن الرفيع، لم يعد بإمكانه أن يقوى أمام «خفة الكائن» التي ربما ينبغي أن نتحملها هذه المرة. * كاتب مغربي