فَسرْ في بلاد الله والتمس الغنى تعشْ ذا يَسار أو تموتُ فتُعذَرا (عروة ابن الورد) لن نضيف جديداً في متعة السفر وفوائده. قالت العرب كثيراً في هذا المضمار، وقال العالم. يبقى لكل منا كيفية القول. لولا فضول الاكتشاف وحشرية المعرفة لظل الإنسان مكانه وما كنا شعوباً وقبائل نتعارف، نتحاور، نتبادل الخبرات، التجارب، العلوم و...الحروب. شاءت الأقدار وطبيعة مهنتي أن تكون مثابة بساط ريح يحملني على متن الرياح الأربع ويعلّمني ما لم أعلم. فالتجوال بين البلدان والمدن يجعلك فراشة ترشف رحيقاً متنوعاً من زهرات الدنيا يصلح لعسل معرفي نادر فريد. تتهجى المدينةالجديدة وتجول في شوارعها، أزقتها، ساحاتها، ميادينها. تتصفح عماراتها ومبانيها وما تركه الأولون فيها من أثر أفكارهم وإبداعاتهم ووقائع عيشهم، تتلمس مسامات الحجر كمن يتحسس جلد يافعة فائقة السحر والغوى. أجمل المدن تلك التي حفظت إرث أوليها، ولم تفرّط بذاكرتها وذكرياتها وملامح الذين تعاقبوا عليها. للحجر ذاكرة خصبة متى أمحت لا يعوضها شيء، لا كلمات، لا صور، لا فيديو، لا يوتيوب... ولا قصائد رثاء وبكاء على الأطلال! تتهجى المدينةالجديدة كمن يقرأ كتاباً، روايةً، ديوانَ شعر، مسرحيةً، تاريخاً ...الخ. كل مدينة موسوعة بكتب كثيرة، الصفحات مفتوحة ومتاحة بحسب رغبة الباحث وعما يبحث. بعضنا يسعى خلف متعة الاكتشاف، البعض الآخر وراء أثر مَن سبقوا، البعض وراء لذة التسوق، سواه ينشد نشوة التجوال. في المدينة كلُّ هذا وأكثر. أجمل المفاتيح لمدينة مجهولة امرأة عاشقة، تأخذك من تلابيب روحك فتمنحك شغف الإقبال وشبق المعرفة. كفُّ امرأة تمسك كفَّك في مدينة غريبة يغنيك عن كل الأدلاء السياحيين والخرائط المعروضة في أروقة الفنادق والأكشاك (للمرأة أن تبحث عن كفّ رجل). العشق يجعلك ابن بطوطة معاصراً، تصول وتجول، تمتطي الأجواء، تمخر البحار، تتهجى إسفلت المدائن تائهاً في محطات المترو، منقاداً بحبل ابتسامة ثغر يتدفق سحراً وضياءً، لاهثاً خلف غواية يذوبُ فيها الإنسان بمكانه والمكان بإنسانه!. سافروا تغنموا (حديث شريف). ما تعلمنا إياه المدن لا تعلمنا إياه الكتب ولا الأسلاف. يقول المثل الشعبي اللبناني: «الحكي مش متل الشوفي (الفرجة)». أجمل الفرجات مدينةٌ جديدة، جغرافيا غير مكتشفة، أرضٌ نطأها لأول مرة. شعورٌ غريب يرافقنا في حلّنا وترحالنا، كأن البدوي الذي كناه يوماً لا يزال كامناً فينا رغم تبدل الأيام وتغير الأحوال. لم يعد الترحال بحثاً عن كلأ وماء. صار الهمّ أموراً ومسائل أخرى تروي ظمأ الروح إلى كل جديد مدهش. العولمة برمتها، بكل ما فيها من تواصل واتصال وتقريب مسافات تظل قاصرة أمام متعة الانتقال من مكان إلى آخر. الصورة لا تعوض أبداً أصل الصورة، والافتراض مهما كان ساحراً ومدهشاً لا يعادل متعة الجلوس على مقعد حديقة عامة في مدينة غريبة وانتظار مجهول ما، غامض قد يحدث، لقاء غير متوقع، قصة حُب تبدأ بنظرة في محطة قطار أو قاعة ترانزيت، رقم هاتف من عابرة سبيل ربما كان بداية تشكل أسرة جديدة. مَن يدري ما الذي تضمره المصادفات؟، هي لا تأتينا ونحن قاعدين في مكاننا نندب الحظ والأيام. ثمة مدنٌ تلهمك كتاباً كاملاً، تمنحك قصيدة عصماء كما فعلت فلورنسا بي ذات دهشة: «...بإيمانك الأكثر من سماء واحدة، بصلاتك الأرحب من محراب، بقلبك الذي أتعبته الخسارات، بيديك الشافيتين، أضأتُ لك شمعةً هناك، في فلورنسا البعيدة، في كنيسة هرمة مثل حسراتك الكثيرة، قبابُها المتباهية مُرضعاتُ الغيم، أجراسُها بشارةُ خلاصك أيتها المؤمنة حتى الموت، كأنها شفاهك المرتجفة هذه الأوركسترا الساهرة في ساحة السيدة التي يسمونها بياتزا دي سنيورا، هذه النوتاتُ التي تتبادلُ القُبلَ تحت قمر توسكانة حيث الموسيقى سُلّمٌ إلى الله. البيوتُ قصائدُ أبياتُها حجارتُها العتيقة، استعاراتُها شبابيكُها المفتوحةُ على الورد والخيال».