أشعر وكأن بلدان الربيع العربي جريح يئن، وكما أن الكيان الحي يفرز أجساماً مضادة لمقاومة التلوث الذي تسببه الجروح أو البكتيريا، أتمنى أن يكون الفكر الإنسان هو إفراز بلداننا لحماية نفسها في مواجهة وعي أبنائها المهزوم. قرأت يوماً قول شكسبير، شعراً، أنه إذا أطلق المرء سهماً وحدث أن غاب عن ناظريه ولم يدر له موضعاً، فما عليه إلا أن يعيد الكرّة مع سهم آخر، يطلقه من المكان نفسه في الاتجاه نفسه وبالقوة نفسها، حتى إذا علم موضع سقوطه، وجد الأول! ميزة كبرى يتيحها الفكر الأنساني لمجتمعاتنا وهي تمكينه رُماتها، أعني مفكريها، من إعادة الكرة من نقطة ما قبل التيه، لأنه وكما احتكم أسلافنا لما بداخلهم، واهتدوا الى الحقائق بضمائرهم الحرة، لزاماً علينا أن نحاكي جرأتهم في طلب الحقيقة! لا يعني هذا بالطبع أن تُمحى ذاكرتنا، فالذاكرة لا تُمحى وإنما يُعاد بناؤها. مشكلة أبناء مجتمعاتنا أنهم يتبعون الحياة لا الحقائق، يسوقهم التاريخ ولا يسوقونه، وإلا فكيف نفسر مرض المسالمة وقد استأسد على صوت الحقيقة الأجش! وأيضاً، كيف نفسر ما نستشعره جميعاً من غرق ما بداخلنا، أعني الإنسان الداخلي، على تعبير عالم النفس الأميركي الشهير سكينر، في دوامة المصلحة والخوف. الإنسان مؤهل لأن يُبدع الحياة باستمرار، وإنه لحق على الذين يوهبون بسخاء أن يؤدوا واجباتهم بسخاء، وفق قول الرئيس الأميركي جون كينيدي، فالإنسان يملك بين يديه الفانيتين القدرة على بعث الحياة! استدامة الربيع العربي على المحك. يقلقني كثيراً أن أرى قبلات الامتنان تغطي يد الجلاد! يقلقني أن أرى الوعي المهزوم يرفل في غلائل العزة والنصر! يقلقني أيضاً أن ما في داخلنا سجين ونحن حراسه، مدى أعمارنا القصيرة. يقلقني جهلنا بأنه كلما أسلس الإنسان قياده للحياة ابتعد حتماً عن الحقائق... عن الخير. ولمن يقول: ليست بلادنا وحدها من تقتل «ما بداخلنا/الإنسان الداخلي»، وأننا نعيش في عصر ما بعد الحداثة عصر الصورة/الفيديولوجي، بكل استهلاكيته. الغربيون، وربما أبناء حضارات أخرى، قد يحتملون هذه «الموضة»، لكن مجتمعاتنا لا أظنها تتحمل. ليس لدينا صفوة فاضلة تناضل على الخطوط الأمامية للمعرفة وتوافي مستخدمي مستحدثات العصر بالمعرفة والفضيلة. ليس لدينا رصيد معرفي غير مشوش، نستعين به على الحصار الناعم المضروب، فثمة نقص يتكشف جيلاً بعد جيل، وهو افتقاد شخصيتنا الحضارية لتربة صالحة لنمو الحرية المسؤولة على نحو تلقائي، وهو ما يعني تضورنا لأن نُحسن البدايات . تضورنا لأن نجاهد في تعليم نقدي يسد هذا النقص ويدرأ أخطار استدامته. لا نريد لتجربة الإسلام السياسي التي تعود إليها مجتمعاتنا اليوم بنهم أن تفشل، لأنها ربما تكون الفرصة الأخيرة للبقاء أمام حضارتنا حضارة الضرورة العملية فشل تجربة الإسلام السياسي يصبح محتوماً للأسف الشديد، إن هي لم تسمح بفك الارتباط التاريخي بينها وبين تقزيم الوعي وتغييب الحرية المسؤولة. الغرب، ومن خلفه قوى السوق الكونية، يدفع بقوة وهستيرية في اتجاه تقوية هذا الارتباط المشؤوم، كما وسوس، هو نفسه، من قبل في صدور حكام دولة العسكر (1945 – 2001). تحرير الإنسان الداخلي وليس قتله هو الواجب.