«الإحصاء»: 12.7% ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    وطن الأفراح    حلاوةُ ولاةِ الأمر    حائل.. سلة غذاء بالخيرات    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    الشيباني يحذر إيران من بث الفوضى في سورية    رغم الهدنة.. (إسرائيل) تقصف البقاع    الحمدان: «الأخضر دايماً راسه مرفوع»    تعزيز التعاون الأمني السعودي - القطري    المطيري رئيساً للاتحاد السعودي للتايكوندو    "الثقافة" تطلق أربع خدمات جديدة في منصة الابتعاث الثقافي    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    شرائح المستقبل واستعادة القدرات المفقودة    مليشيات حزب الله تتحول إلى قمع الفنانين بعد إخفاقاتها    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    جدّة الظاهري    الأبعاد التاريخية والثقافية للإبل في معرض «الإبل جواهر حية»    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    5 علامات خطيرة في الرأس والرقبة.. لا تتجاهلها    في المرحلة ال 18 من الدوري الإنجليزي «بوكسينغ داي».. ليفربول للابتعاد بالصدارة.. وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    ارتفاع مخزونات المنتجات النفطية في ميناء الفجيرة مع تراجع الصادرات    وزير الطاقة يزور مصانع متخصصة في إنتاج مكونات الطاقة    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    أمير الشرقية يرعى الاحتفال بترميم 1000 منزل    الأزهار القابلة للأكل ضمن توجهات الطهو الحديثة    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    المأمول من بعثاتنا الدبلوماسية    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    مسابقة المهارات    إطلاق النسخة الثانية من برنامج «جيل الأدب»    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    وهم الاستقرار الاقتصادي!    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    %91 غير مصابين بالقلق    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    البحرين يعبر العراق بثنائية ويتأهل لنصف نهائي خليجي 26    التشويش وطائر المشتبهان في تحطم طائرة أذربيجانية    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    حرس حدود عسير ينقذ طفلاً مصرياً من الغرق أثناء ممارسة السباحة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    ملك البحرين يستقبل الأمير تركي بن محمد بن فهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية للجنة الحج المركزية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد أسد لم يتجاوز الثانوية
نشر في الرياض يوم 24 - 07 - 2005

استطاع أن يتحرر في شبابه المبكر من البرمجة التي حقنته بها أسرته وبيئته اليهودية وهي قدرة نادرة في الناس كما استطاع أن يكتشف بنفسه ويمحض اهتمامه حقائق الإسلام وعظمة مبادئه رغم كل الصوارف عنه فرغم الحرص الشديد الذي أبداه أهله نحوه في طفولته وشبابه وسعيهم إلى أن يتشبع بمعتقداتهم للمفكر الإسلامي الكبير محمد أسد (ليوبولد فايس) رحمه الله مكانة خاصة وحميمة في نفسي فقبل ثلاثة وأربعين عاماً في العطلة الصيفية التي أعقبت إنهاء المرحلة المتوسطة (الإعدادية) قرأت كتابه (الإسلام على مفترق الطرق) ترجمة الدكتور عمر فروخ ثم كتابه (الطريق إلى الإسلام) ترجمة عفيف البعلبكي ثم كتابه الثالث (منهاج الإسلام في الحكم) ترجمة منصور ماضي فتأثرت به تأثراً شديداً وانتقلت معه إلى مستوى جديد في القراءة والبحث والتأمل وكنت متعطشاً إلى مثل هذا المدد الثقافي والفكري لأني منذ الصف الرابع الإبتدائي اندلعت في نفسي أسئلة أساسية حادة وكانت عندي اعتراضات أو تساؤلات جوهرية على مواضعات ومسلمات وأحكام ومعايير تاريخية سائدة لم أجد لها إجابات مقنعة في الدراسة النظامية لا في كتبها ولا عند معلميها بل كانت الإجابات أحياناً منفرة ومناقضة لما أعتقد أنه الحق مما زهدني بها فأكملت الدراسة منتسباً وقد مثلت مؤلفات محمد أسد مرحلة هامة من مراحل تأهيلي الذاتي المنفرد...
وقد أشرت إلى ذلك في بحثي الجامعي الذي أعددته 1389ه ونلت به درجة الامتياز في كلية الشريعة بالرياض وطبعته الكلية ونشرته عام 1390 - 1970م فقد جاء في هامش صفحة (12) ما يلي: «قبل ذلك التاريخ (1384 -1964) كنت في المرحلة المتوسطة ولم يكن أحد ممن حولنا ليرشدنا إلى الدراسات الإسلامية الجديدة بل على العكس كان الوسط الذي نعيش فيه يوحي بأن الأول لم يترك للآخر شيئاً.. فتركت الانتظام في الدراسة وانتقلت إلى الرياض فالتقيت بمكتباتها بهذا الانتاج الإسلامي الجديد وكان من أوائل الكتب التي قرأتها آنذاك مؤلفات محمد أسد (ليوبولد فايس) وكانت قوية الجاذبية شديدة التأثير» هكذا كان التعرف إلى محمد أسد هو بداية التحول في حياتي الثقافية والفكرية...
وحتى الآن ما عدت إلى كتبه إلا وجدت فيها من المتعة والفائدة ما يبهج ويثري ومع أنني الآن اختلف معه جذرياً في رفضه الشديد للثقافة الغربية وفي إعجابه المفرط بالعرب إلا أن ذلك لم يقلل من إعجابي به واحترامي له واقتناعي بمواهبه الزاخرة العظيمة لقد كان مخلصاً في بحثه عن الحقيقة وكان صادقاً مع نفسه في نقده الشديد لثقافة الغرب ورفضه لها ولكن بالتأمل نجد أن هذا الرفض الصارم لم يكن عقلانياً وإنما كان متأثراً بأزمته الفكرية والنفسية فهو يعبر عن موقف عاطفي يعود إلى الحالة الأوربية العامة البائسة التي خلفتها الحرب العالمية فقد كان الغربيون قبل تلك الحماقة الكبرى ومنذ نجاح الثورة الأمريكية ثم الثورة الفرنسية وما تحقق بعد ذلك من فتوحات حضارية مدهشة وهم يعيشون متفائلين بمستقبل مشرق للإنسان ومؤمنين بعظمة عقله وبقدرته على التقدم المستمر وسيره نحو التآخي الإنساني وكانوا يعتقدون أن حماقات تظل كامنة فيه وأنه يرتد إليها سريعاً إذا جذبته الأحداث وفي ذلك الجو المحموم بالنقد والمراجعة تنبأ الفيلسوف الألماني شبنجلر بسقوط حضارة الغرب ولقي كتابه عن ذلك رواجاً واسعاً في كل العالم وقد عزز حالة الضياع واليأس والاحباط لدى الشباب الأوروبي في تلك الفترة أن الحرب أسفرت عن كساد شنيع أعاد الناس إلى الفقر والفاقة والبطالة وسوء الأحوال كما أن اكتشافات التحليل النفسي وتأكيدها لهيمنة اللاشعور على الحياة البشرية قد عززت فقدان الثقة بالإنسان وضحمت دور القوى اللاواعية في توجيه حياته..
وكانوا يعتقدون أن حماقات الحروب قد انتهت إلى الأبد وأن الإنسان صار عقلانياً في تفكيره وسلوكه وقراراته ثم فوجئوا باندلاع أفظع وأوسع حرب عرفتها البشرية من قبل فاكتشفوا بذلك أن همجية الإنسان وعدوانيته وحماقاته تظل كامنة فيه وأنه يرتد إليها سريعاً إذا جذبته الأحداث.
وفي عنفوان هذا الاضطراب والارتياب واليأس والفقر والتأزم انتقل ليوبولد فايس من أوربا المهزومة البائسة المتوترة المأزومة المرتابة والمثخنة بجراح الحرب الكبرى إلى دنيا العرب الواثقين بما لديهم عن الماضي والحاضر والمستقبل الموقنين بأنهم يملكون الإجابات الصحيحة الكاملة عن كل التساؤلات القائمة والمحتملة لقد كان يبحث عن الأمان الفكري والطمأنينة النفسية لذلك بات سعيداً أن يعيش بين قوم راضين غافلين وغير متسائلين ولا مرتابين إنهم مغتبطون بتصوراتهم وثقافتهم وواثقون من أنهم يعرفون كل شيء فلا يحسون بالمشكلات ولا يشغلهم البحث عن الحلول ومهما امتلأت حياتهم بالانقسامات والمعضلات والويلات والانكسارات فإنها في نظرهم قد أتت من خارجهم فهم مطمئنون إلى ماهم عليه مكتفون بما ورثوه من ثقافة ومتقنعون بكمالها المطلق وكفايتها التامة يستنكرون أية مراجعة أو نقد ويرفضون أي تغيير أو تجديد فالحلول لكل المشكلات جاهزة عندهم بالتمام والكمال منذ مئات السنين ولكن الأعداء يمنعونهم من استخدام هذه الحلول الحاسمة!!! أما ماهي هذه الحلول تفصيلاً؟! وكيف يمكن تنزيلها على الواقع البائس لشفائه من هذا البؤس؟! ولماذا هم عاجزون في كل المجالات حيث ما زالوا يعيشون خارج حركة العصر وعبئاً عليه؟! إن هذه كلها أسئلة غير مثارة ولا مطروحة وإنما يكتفى بشعارات فضفاضة عامة تدغدغ العواطف وتريح النفوس وأما ما يعج به واقعهم من عدم قدرة على التفاهم ومن استبداد وانغلاق ومعضلات وعجز وارتباك وهوان وتنازع واضطراب وتخلف فهو من كيد الأعداء الحاقدين ومؤامراتهم وأما هذه الإنجازات الزاخرة التي أنجزها الآخرون والازدهار الشامل الذي صنعوه لأنفسهم وللعالم والنجاحات العظيمة التي أحرزوها في العلوم والفنون والتقنيات والإدارة والنظم فهي لا تستحق الالتفات فهي منجزات الأسلاف العرب أخذها منهم الغربيون وادعوها لأنفسهم!! أما كيف حصل ذلك ولماذا لم يستفد العرب من علمائهم ومبدعيهم المزعومين!! وهل كان أولئك العلماء والمبدعون من نتاج الثقافة العربية ومتناغمين مع اهتماماتها ويعملون من داخل نسقها أم كانوا من نتاج الثقافة اليونانية وخارج النسق الثقافي العربي ومبعدين منه ومهمشين ومنبوذين ومحاربين ويجري التحذير منهم وكتبهم؟؟ إن كل هذه التساؤلات البديهية والمنطقية لا يثيرها أحد!!! كما أنه لا أحد يتساءل كيف نتفاخر بمن كنا وما زلنا نتبرأ منهم وندينهم ونعدهم نشازاً على فكرنا وثقافتنا؟!!...
أما محمد أسد فإن عظمة الإسلام وروعة تعاليمه قد جعلته يحيل شيئاً من هذه العظمة والروعة إلى العرب فقد كان اقتناعه الحقيقي بالإسلام واحتياجه النفسي إلى الأمان كافيين لجذبه إلى العرب والاعجاب بوثوقهم والاطمئنان إلى يقينهم والرضا بعدم إحساسهم بالتأزم العالمي وأخذته الفرحة بهذه الطمأنينة وفي غمرة هذا الفرح لم يرد أن يفطن بأن هذا الاطمئنان والوثوق تعبير عن سذاجة وغفلة وأن هذا العجز عن الإحساس بالمشكلات لم يكن ناشئاً عن البحث والاستقصاء وأنه لا علاقة له بالإسلام وتعاليمه ومبادئه وإنما هو ناشئ عن الحرمان من صراع الأفكار وغياب الشعور بالبدائل والخيارات فهو غفلة واستسلام فالمهيمن في البيئة العربية يفرض رأيه ويؤدلج الناس على اتجاهه ومع الوقت يعتاد الناس على ما فرض عليهم ويصبح ذا حصانة ذاتية عن أية مراجعة أو نقد فيكتسب من القداسة والهالات ما يضمن له السيادة المطلقة والاستمرار المضمون فالغبطة بالأوضاع القائمة كانت ومازالت من أكبر أسباب استمرار التخلف...
وإذا كان الغرب قد ارتج بالحرب ذلك الارتجاج الشديد الذي دفعه إلى مراجعة كل مسلماته وقيمه والعمل الجاد لإصلاح حاضره وتأمين مستقبله فإن العرب لم يكونوا بعيدين عن ويلات الحرب العالمية فقد وصلهم منها ما كان كافياً لإيقاظهم وتأزيمهم وتحريكهم نحو المستقبل لكن العرب كعادتهم لايستفيدون من دروس التاريخ ولا توقظهم الأحداث ولا تصلح تفكيرهم الأزمات وإنما يستأنفون الحياة بعد خمود الكارثة أو انقضاء الحدث وكأن شيئاً لم يحصل ولكن ليوبولد فايس فسر هذا العجز عن التغير بما يتفق مع احتياجاته النفسية فأراح نفسه واطمأن إلى القوم الغافلين المغتبطين الواثقين المكتفين وإن كان فيما بعد قد اكتشف الفرق النوعي بين تعاليم الإسلام العظيمة وأخلاق العرب البئيسة!!!...
لقد اكتشف عظمة الإسلام واهتدى إليه وآمن به وكان محقاً في اقتناعه الشديد بالإسلام وكان عقلانياً في الإيمان به والإستجابة له والدفاع عنه والدعوة إليه وإلحاحه بمطالبة المسلمين بأن يعودوا للتمسك به ليستعيدوا المجد الذي فقدوه لكن اقتناعه العقلاني الشديد بالإسلام قد تحول إلى إعجاب عاطفي وغير عقلاني بالعرب إلى درجة تخطت الموضوعية والاعتدال ودخلت في باب المبالغة والإفراط وهنا ودائماً يجب أن نفرق تفريقاً جذرياً بين الإسلام العظيم الذي جعله الله ختم الرسالات وبين العرب وأهوائهم وتنازعهم على السلطة وآفاتهم الثقافية والفكرية والأخلاقية وهو الشيء الذي اكتشفه محمد أسد بعد أن تعمق في فهم الواقع العربي والإسلامي...
ولكن الذي دفع محمد أسد في السنوات الأولى من التقائه بالحياة العربية إلى هذا الإفراط في الثناء على العرب والاعجاب بثقافتهم أنه كان ثائراً على الثقافة الأوربية فقد كانت في تلك الفترة مضطربة ومتحركة وغير مستقرة وكانت محل مراجعة شاملة وموضع نقد جذري ومع أن الازدهار الغربي منذ البدء قد تأسس على آلية المراجعة الفاحصة والنقد الجريء إلا أنه بعد الحرب المروعة جاشت في ثقافة الغرب كل التساؤلات وانفتحت فيها كل الاحتمالات وكان كل شيء في أوربا يضطرب ويهتز بفعل التقلبات السريعة ولابد من التأكيد بأن هذا القلق والتململ ليس من سوءاتها بل كان وما زال من أهم أسباب تقدمها فهو جهازها المناعي المتأهب دائماً لدفعها نحو تطوير الذات والتخلص من المعوقات ولكن محمد أسد كان متعطشاً إلى ثقافة يطمئن فيها إلى مصير العالم وإلى مصيره الشخصي ليس في هذه الحياة الدنيا فقط وإنما في الحياة الأبدية الأبقى لقد جاء من مجتمعات مشتعلة وفائرة بالأفكار المتعارضة وكانت نتائج الحرب المدمرة قد سحبت الثقة من الإنسان وأوهنت مكانة العقل ودفعت الشباب إلى العدمية الروحية ورمتهم في الحياة البوهيمية وكان عقله المتوقد يؤمن بجدية الحياة وعظمة الإنسان وأهمية المصير لذلك لم يقتنع بموجات الضياع والصراعات الفكرية التي اندلعت في أوربا بعد الحرب وصمم على أن يعثر على سبيل الخلاص وقد وجد ذلك في الإسلام فآمن به وأخلص وأحب العرب الذين قربوه منه ولكنه أفرط في تعظيم العرب والإشادة بأخلاقهم بإضفاء شيء من عظمة الإسلام عليهم وهذا من الخلط الضار الذي لا يسوغ قبوله ولا السكوت عليه فالإسلام شيء عظيم أما الممارسات باسمه فشيء آخر مختلف فهزائم العرب المتتالية وعجزهم عن الإسهام في حضارة العصر واستمرار تخلفهم وعدم قدرتهم على الاتفاق حتى على الأساسيات وانشغالهم المفرط بالجزئيات وشيوع السلوك الأناني واستساغة الانتهازية وقابليتهم للتشرذم وضآلة تأثيرهم في الرأي العام الدولي وتكرار الاقتتال فيما بينهم وتهميش الإنسان الفرد ومصادرة الحريات وطمس القابليات وغير ذلك من الآفات الشنيعة كلها تتناقض مع ما أضفاه محمد أسد على العرب من خصال...
غير أن هذا لا يمنع من التأكيد بأن محمد أسد باحث استثنائي فريد فقد استطاع أن يتحرر في شبابه المبكر من البرمجة التي حقنته بها أسرته وبيئته اليهودية وهي قدرة نادرة في الناس كما استطاع أن يكتشف بنفسه ويمحض اهتمامه حقائق الإسلام وعظمة مبادئه رغم كل الصوارف عنه فرغم الحرص الشديد الذي أبداه أهله نحوه في طفولته وشبابه وسعيهم إلى أن يتشبع بمعتقداتهم إلا أن هذا الحرص قد تمخض عن نتيجة مضادة فقادته دراساته العميقة للمصادر اليهودية إلى النفور من هذه المعتقدات فهو من أسرة يهودية نمساوية ولكنه منذ صباه المبكر وهو يعيش قلق التحقق فهو لم يرض لنفسه أن يبقى يهودياً لمجرد أنه ولد من أبوين يهوديين وإنما أن يتحقق بنفسه من أهلية اليهودية للاعتناق لأنه كان ضد العدمية واللامبالاة كما أنه كان ضد القبول التلقائي لمعتقدات الآباء الموروثة فهو يؤمن بأن قرار العقيدة هو أهم وأخطر قرار يتخذه الفرد في حياته وليس سائغاً التساهل في تكوين حيثيات هذا القرار المصيري الخطير لذلك فإن ليوبولد فايس راح يدرس التوراة والتلمود بعناية شديدة فصدمته التعاليم التلمودية ذات الطابع العشائري وأيقن أن الله لا يمكن أن ينحاز لقبيلة أو عشيرة وإنما هو رب الناس أجمعين وصمم على أن يبحث بنفسه عن الحقيقة حتى يتوصل إليها ويطمئن إلى أن عقيدته مؤسسة على البحث والاستقصاء وقائمة على البحث الموضوعي والإخلاص للحقيقة...
وبعد أن أنهى المرحلة الثانوية التحق بجامعة فينا وأراد أن يدرس تاريخ الفن لكنه لم يقتنع بالرتابة الأكاديمية ولا بالجفاف المدرسي فتوقف عن الدراسة النظامية وراح يؤهل نفسه بنفسه فهو فردي النزعة ومستقل التفكير ولا يطيق التلقين ولا صلف المعلمين وكان مدركاً لمواهبه ويرى أنه مؤهل للمشاركة في إنتاج المعرفة وتمحيصها وليس فقط لتلقيها بقبول أبله واستسلام بليد لا يليق بالمسؤولية الفردية لذلك كان ينفر من الأسلوب المدرسي القاطع كما أنه مشحوناً بقلق روحي لم يجد له علاجاً في الدراسة الأكاديمية فترك الجامعة مبكراً وراح يبحث لنفسه عن مسار جديد يجد فيه ذاته ويريحه من قلقه فصار من رواد المقاهي الثقافية والمنتديات الفكرية في فينا وبرلين وجرب وهو في العشرين من العمر مواهبه في المسرح والسينما وإنتاج الأفلام وتقدم بسرعة وعمل شريكاً أو مساعداً للدكتور مورناو ثم شريكاً أو مساعداً لماكس رينهارديت من كبار المخرجين ومنتجي الأفلام السينمائية بألمانيا آنذاك لكنه رغم نجاحه السريع في هذا المجال لم يواصل العمل فيه لأنه كان مقتنعاً بأنه مخلوق ليكون كاتباً والأهم من ذلك أنه لم يكن يبحث عن نجاحات آنية وإنما كان مشغول العقل بقضايا الوجود والمصير فالحياة الإنسانية في نظره جد خطيرة ولا يصح التساهل في تحديد مسارها لأن هذا التساهل يعني استخفاف الإنسان بذاته وعدم اهتمامه بمصيره لذلك ظل يبحث عن الحقيقة باهتمام شديد واستقصاء دقيق حتى اهتدى إلى الإسلام...
إن هذا الاهتمام القوي المستغرق بالحقيقة قد صرفه عن مواصلة مشوار الدراسة النظامية ذات الأداء الرتيب فانشغل بالبحث عما يرضي عقله وتطمئن إليه نفسه وقد أيقن أنه لن يحقق ذلك إلا خارج الأطر المدرسية لكن هذا كان يتعارض مع رغبة أبيه الذي كان يريد منه أن يواصل الدراسة حتى يحصل على الدكتوراه فرغم أن الأب كان مقتنعاً بمواهب ابنه إلا أنه يعلم أن المجتمع لا يتقبل المواهب إلا وفق المعايير المدرسية ويريد أن لا تبقى مواهبه عزلاء من أوراق التزكية التي اعتاد الناس عليها لذلك كان يريد منه أن ينال أرفع الشهادات حتى وإن كان قادراً على تأهيل ذاته بشكل أفضل دون شهادات غير أن ليوبولد فايس لم يكن مستعداً لمسايرة هذه المعايير المثبطة ولا مصابرة التعقيدات المدرسية ويرى أن في هذه المصابرة تأزيماً لنفسه واستنزافاً لطاقته وإهداراً لجهده وتضييعاً لسنوات ثمينة من عمره في الإصغاء لما ليس مقتنعاً به فهو يريد أن يكون طليقاً وحراً وأن يستثمر كل وقته وطاقته وجهده في تكوين ذاته في الاتجاه الذي يجد فيه نفسه...
ولكن لا شيء دون ثمن فهذا الإصرار على الاستقلال يقتضي أن يعتمد على نفسه وهذا يعني أن يبحث عن عمل يعيش منه وقد حفيت قدماه وهو يبحث عن جريدة تقتنع بتوظيفه صحفياً ولكنه لم يجد إلا الصد أو الاعتذار وذلك لصغر سنه وعدم توفر الخبرة لديه وجهل الآخرين بمواهبه إضافة إلى الكساد الشديد الذي أعقب الحرب العالمية الأولى فاضطر أن يعمل بإحدى المؤسسات الصحفية بوظيفة (عامل هاتف) ليكون قريباً من العمل الصحفي ويتحين الفرص للقفز المفاجئ الذي يثبت به جدارته وانطوى بتململ على مواهبه حتى واتته الفرصة لإثبات كفاءته الصحفية بطريقة درامية وكان دخوله إلى الصحافة دخولاً واثباً وغير عادي وكانت البداية إجراء لقاء مثير اقتضى منه تجاوز الكثير من العقبات لإجرائه مع زوجة الكاتب الروسي مكسيم جوركي.. وسوف نواصل الحديث عن محمد أسد في حلقة أخرى إن شاء الله...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.