لوهلة يصبح كل شيء هشاً، كما لو أن الصور المعروضة منتمية الى الهواء. ليس صعباً أن ندرك ذلك، ونحن نعبر في الطبقتين داخل غاليري «آرت فاكتوم» في منطقة «الكرنيتينا» البيروتية بين صور تانيا طرابلسي، التي تركت تصميم الأزياء لتهتم بالفوتوغرافيا من دون سابق إصرار. الانتقال الحذر من عالم القماش الى عالم الصورة، لم يكن صدفة. عودتها من النمسا في العام 2003 واكتشاف بيروت في «حرب تموز (يوليو) 2006»، كانا دافعاً لاشباع رغبة في الانتقام من الوضع القائم. قررت أن توثق الحرب، وتركها في الدُرج. لا للذكرى بل لشعور تحقق. لم تتجاهل طرابلسي عالم الأزياء كلياً، فأبقت القماش جزءاً من تقنية التصوير. هكذا تتحلل الأجزاء بعضها فوق بعض. متداخلة وممسوكة، مع بقع غير واضحة لأماكن نعرف انها في بيروت، كما الحال في مجموعة «ضباب». صور مشبعة بضباب مكثف. حيث تلتوي العدسة بين ذرات دبقة، من أبنية بيروت وضواحيها المغلقة ومرفئها المفتوح على احتمالات كثيرة من الرؤية. فالتحديد «غير مهم» و»مكلف» لها، فترى في الاشتغال الفني للصورة «بعداً غير واضح ومرّمزاً»، مسكوناً بمسام خاصة وهويات لا تشبه الحقيقة عادة. لأعمال طرابلسي إرتباط «وثيق» بالزمن. فاللحظة مقدسة، لكنها لا بد ستنصرف الى زمن ماض صامت ولا كلام فيه. ففي صورها غموض للسكوت. لا حركة ولا إيضاح. في مجموعة «صمت»، يمرغ البياض نفسه على الصورة. وتبدو الأشكال المحاطة به عشوائية وهلامية لا ملمس لها سوى الورق الممتدة عليه. البياض مغامرة للمصور، وهي أرادته في معرضها الفردي الأول في لبنان. أوجدته في مساحة مربكة من الذات. تقول: «أردت من خلال معرضي تناول الحياة الخاصة والحميمة للفرد، لما تثيره من حشرية لدى الآخر الذي يريد معرفة كل ما يتعلق بغيره، ويحاول عبثاً التطفل على الحياة الخاصة. اخترت الحديث عن هذا الموضوع في 45 صورة موزعة على سبع مجموعات، ولكل مجموعة عنوانها الخاص. وأمام الصور الأسئلة متاحة لما تخفيه من معان ودلالات، خصوصاً أن صوري ليست واضحة المعالم، إنما مموهة بالضبابي والابيض وبالأشكال المهمشة». في أعمالها تخلط طرابلسي عيوناً كثيرة، رغم ان ولادتها (الاعمال) غالباً ما تكون شخصية. تدعو المشاهدين الى الغوص لا التركيز. تدور في فلك واحد، مستقطع وموزون، عن اليوميات والأفكار والأمزجة المتتابعة. مجموعة «وحيدات»، مثال لذلك. فكل شخصية من شخصيات الفنانة المزدوجة في الصور، تبدو ملتهية بإهتمام يومي ومكرر. في هذه المجموعة استكشاف «دقيق» للبورتريه الشخصي عبر الصداقة الذاتية. توضح: «تعرفت الى شخص صديق في داخلي، أنا اخرى، بعد أن عايشت ظروفاً صعبة، فاعتقدت أن شخصاً آخر في داخلي هو بمثابة صديق، ما أعطاني القوة والثبات. الوحدة هي أروع اللحظات التي نتقاسمها مع الآخر الكامن في الذات، إنه لأمر نادر وهذا يعني لي أننا نشكل كائناً واحداً». صور أمسكت باللحظة لتكون عملاً توثيقياً للحميمية الخاصة، لزوايا متروكة وهامشية من الذات. انها مرحلة تعيد طرابلسي بناءها من خلال الصور، مستعيدة أفكارها المؤلمة والمنسية والفرحة في اطار يبتعد ويقترب بحسب تأويل عين المشاهد. فعنوان المعرض «من مسافة»، هو تأكيد لمحاصرتنا بين شعورين: شعور مزيف وغريب، وآخر مشحون بالرقة. الفنانة في سطور يذكر أن تانيا طرابلسي ولدت في لبنان عام 1976 وعاشت سبع سنوات من طفولتها فيه خلال الحرب، وحظيت ب «طفولة رائعة» في بيروت، كما تقول، لأن أهلها حموها من مآسي الحرب. اضطرت عائلتها لمغادرة لبنان عام 1983، وهربت الى فيينا حيث أكملت تانيا مراهقتها وحازت الجنسية النمسوية. ولم تعد الى لبنان إلا في العام 2003. تخصصت في تصميم الأزياء لفترة ثماني سنوات في فيينا، ودرست تاريخ كل الفنون. التصوير بالنسبة إليها هو اللغة التي تعبّر بها عن العواطف الخاصة وما تريد البوح به. المرئي يساعدها على القول. عرضت أعمالها في الخارج، ونشرت صورها في «براون بوك»، «شيكاغو تريبيون»، «كولورز ماغازين»، «لوس أنجليس تايمز»،«مونوكل» و«ذا أوبزرفر».