سألتني المذيعةُ على الهواء في برنامج «فلسطين هذا الصباح»، في الفضائية الفلسطينية، عن القصائد التي سألقيها في معرض فلسطين الدولي للكتاب في دورته الثامنة 2012. فأجبتها أن حضوري وحضور شعراء عرب من مصر والمغرب وتونس والأردن، وسواها من الدول لولا عُسر التصريحات، هو «الحدث». وقوفي الآن على أرض فلسطين/ الحلم، هو «القصيدة»، وليس ما سأُلقي من أشعار. لا أظن أن بوسعي كتابة نصّ أجمل من هذا النص، نص حلم الحضور، مهما عشتُ من عمر. اعتدتُ أن أقسّم أحلامي إلى: أحلام ممكنة، أحلام عسيرة، وأحلام مستحيلة، أسميها «الأحلام المُرجأة»، تلك التي تؤجل إلى حياتي الأخرى . وكانت زيارتي لفلسطين في تلك الخانة. كلما همّ أحد أصدقائي من شعراء فلسطين بزيارة مصر، سألني: ماذا تودين أن أجلب لك معي؟ فأجيبه: حفنة من تراب فلسطين، وحصوة صغيرة. فامتلاك التراب رمزٌ للزيارة. وتكوّن لديّ رصيدٌ من تراب الأرض المقدسة، يملأ قنينة زجاجية، تتصدّر مكتبة الأوسمة والدروع والتذكارات في مكتبي. لكنني أقفُ الآن بجسدي فوق تلك الأرض! أدخل الحرم الإبراهيمي في الخليل، غير عابئة بسخافة المجندة الإسرائيلية التي رمقت «الحَطَّة» الفلسطينية حول عنقي مكتوب عليها «القدس لنا»، فطلبت مني خلعها. إنهم يرهبون «رمز» المقاومة، وإن كان قطعة صغيرة من القماش يرفعه عنق عربيّ. هنا قبرُ نبي الله إبراهيم، عليه السلام، وهنا قبر زوجته السيدة «سارة»، فماذا يفعل السلاح فوق أكتاف الجنود؟ ها أنا أقفُ أمام كنيسة «المهد» حيث وُلد السيد المسيح، معجزة السماء، عليه السلام. وها نحن نضع إكليل زهر على قبر الشهيد المناضل ياسر عرفات. نحن في فلسطين. هنا فلسطين. تلك هي القصيدة؛ أن أسير فوق هذه الأرض، وأرفع رأسي نحو سماء لا تشبهها سماءٌ أخرى. حين هاتفني الأستاذ محمد الأسمر، مدير معرض الكتاب الفلسطيني ليدعوني الى المعرض، لم أكن واثقةً بأنني سمعتُ الكلام على نحو صحيح، فطلبتُ منه أن يعيد ما قال. اعتدنا أن نلتقي أصدقاءنا من شعراء وأدباء فلسطين في بلادنا نحن، أو في مهرجانات أوروبا، كأنهم بلا وطن! وفكّرنا مرّة أن نقيم معرض الكتاب الفلسطيني كل عام في دولة عربية كلون من التمرد على الاحتلال والحصار. لكنهم هذا العام فكروا على النحو المنطقي الوحيد. معرض الكتاب الفلسطيني لا يكون إلا في فلسطين. وليقطع الضيوفُ العرب الطريق العسرة إلى تلك الأرض الطيبة عن طريق الأردن تجنّباً للختم الوصمة على جوازات السفر. لنعاني مثلما يعانون، ولنجرّب الانتظارَ المُرَّ، حيث الوقتُ لا يمرُّ في نقاط التفتيش التي لا تنتهي على المعابر. ولنعاين نظرات المحاجر الفارغة في العيون الصهيونية، تلك التي لم أر فيها إلا خوفَ اللص لحظة استلاب الآخر. دليل الخوف والضعف عندي هو السلاح الذي يشهره في مقابل الصدر الفلسطيني الأعزل، القويّ بإيمانه بالحق في الأرض. صورة فوتوغرافية، تستحق في نظري أرفع جوائز العالم، أرانيها رئيس وزراء فلسطين السيد «سلامة فياض»، لامرأة فلسطينية تتشبث بجذع شجرة يحاول الصهاينةُ اجتثاثها في إحدى هجمات الاستيطان. في عيني المرأة الغَضبَى إيمانٌ «بالحق» في «جذور» شجرة تتشعّب في تربة الوطن، ستُنبت ألف شجرة، إن قطعوها. كسر الحصار أخبرتني سهام البرغوثي، وزيرة الثقافة الفلسطينية، عن عشرات الأدباء والمبدعين والناشرين الذين لم يأتوا رغم ترتيب دعواتهم بسبب رفض سلطات الاحتلال منحهم تصاريح دخول فلسطين، ليس إلا لفرض الوصاية على الحراك الثقافي بالأراضي المحتلّة. لكنهم عازمون على الصمود وتكرار التجربة كل عام، ودعوة المثقفين والمبدعين العرب حتى ينكسر هذا الحصار البغيض. ذاك الذي ساهمنا، نحن العرب، في غزل خيوطه مع صهيون، ومازلنا نُعقّد ونراكم خيوط الشرنقة بإحجامنا عن المشاركة في الفعاليات الفلسطينية بحجة رفض التطبيع! إنما التطبيع هو الاعتراف بالكيان الصهيوني، وعدم زيارتنا فلسطين ينطوي على اعتراف ضمني باحتلالها. رفضنا إسرائيل يتحقق برفضنا ختمها على جواز السفر، ودخول بلادنا الطيبة عبر معابر الدول العربية. الكتابُ في رام الله، يعني التقاء الحُسنيين. حُسن الكتاب، وحُسن الوطن. فإن انضمت إليهما الموسيقى التي صدحت بها فرقة «عيون الكلام» التونسية، فذاك يعني حُسناً جديداً. فإن تواكب كل ما سبق مع موسم «حصاد الزيتون» السنوي في فلسطين، أصبح المعنى مُثقلاً بالجمال والدلالات والرموز الطيبة. بين ساعة وأخرى كنّا نشاهد حافلةً تصل أرض المعرض تحمل التلاميذ من مدارس فلسطينية شتّى. الأطفالُ فرحون بالكتب من حولهم. يسيرون في طوابير مدرسية في محاولة من المعلمة لتنظيم صفوفهم، لكنهم يغافلونها ويركضون نحو الكتب، لاكتشاف ذلك العالم الغامض الذي يسكن بين دفّتين من الورق. ليس أجمل من مشهد طفلةٍ تمسك كتاباً، وتتصفح بفضول خبيئته، وبين الحين والحين تطرد بأصابعها للوراء خصلة شعر تنساب على جبينها الذي يُطرق أمام الورق كأنها لحظة الصلاة. اقرأْ ألفَ مجلّد عن فلسطين وشاهدْ ألف صورة لخيوط دماء الشهداء تشقُّ طريقها في جوف الأرض، ووقّعْ على ألف بيان استنكار للاحتلال والتطبيع، واشجبْ كل معاهدات الدنيا، وارفع شعارات «القدس لنا» وغنِّ مع فيروز «الأرض لنا» و»سنرجعُ يوماً»، ولكن تبقى المشاهدةُ رأي العين، واكتواء اليد بالنار، ولمس القلب الموجوع باليد، وتفجّر الصدر بالصراخ ألماً، والمعايشة الفيزيقية بالحضور والجسد، شيئاً آخر غير النظر من وراء لوح زجاجي، مهما بلغت درجة شفافيته، وغير الإنصات من بعد، مهما كان الميكروفونات جهورةً صادحة.