حينما نقول «فوق حاجز الصوت» فنحن نتحدث عن العقل البشري صاحب السيادة الحضارية، الذي اكتسب بنيته الذاتية، ولا يزال يتصدر المسيرة الإنسانية منذ خمسة قرون مضت، على رغم أن واقع تلك الشعوب كان مريراً، حين كان الجهل مطبقاً على العقل العام، ولم يكن التحول من جاهلية العصر الوسيط سهلاً، فقد تلاطمت التيارات الفكرية على الساحة، ولم ينتصر الإنسان إلا بعد أن ذاق أبشع أنواع التعذيب والحرمان، وبعد فترةٍ من الصراع والتطاحن حتى نال الفرد خصوصيته وحريته الفكرية التي ساعدته في خلق فضائه الخاص، الذي يساعد بدوره - في ظل ملاءمة الظروف - أن يكون عاملاً مهماً في صياغة المزاج الفكري للإنسان الذي أوصله إلى الإبداع وصناعة الفكر الحديث، فلولا معاناة العلماء والمفكرين عبر التاريخ، الذين قدموا حياتهم رخيصة لأجل العلم حتى تنعم البشرية بالحياة، لما كان تطورنا اليوم بفضل إختراعاتهم، فالحرية الفكرية هي التي أتاحت لتلك الأمم أن تنمو وتزدهر. التعليم هو الجزء الأكبر من الطموح الحيوي والضامن لحفظ المعارف من الاندثار، فتناول هذه العلوم والإقبال عليها يُعطي البحث العلمي مطلباً مستديماً وراسخاً، ولا شك أن الأبحاث العلمية تُسهم في دعم اقتصادات الدول، وإذا كانت هذه الدول تقتص من موازنتها جزءاً كبيراً لأجل الأبحاث والتطور التكنولوجي، فعلينا أن ننظر في حجم مخصصات التعليم الضخمة في المملكة، التي رصدت خلال الأعوام الخمسة الماضية بما يوازي الموازنة العامة للدولة في عام 2012، التي تعد أكبر موازنة في تاريخ المملكة، إذ بلغت 184 بليون دولار، ولكن العوائد متدنية ولا تتناسب مع هذا الضخ الهائل، فالقائمون على السياسة التعليمية لم يحدثوا تغييراً جوهرياً في التعليم، وبذلك فيلزم تقديم الأشخاص المؤهلين لهذه المهمة من خلال التعليم العام والعالي والمهني، ودعم التخصصات الفنية، وتبني الأفراد الموهوبين لأجل مصلحة البلد. في اللحظات التي عشناها في إحدى أمسيات الأسبوع الماضي، وبترقب وحماسة شديدين، مع قفزة المغامر النمساوي «فيلكيس بومغارنتر»، الذي دخل التاريخ بأول كسر بشري لحاجز الصوت، في ما شهد الواقع السعودي ارتداداً نفسياً واضحاً يعتريه نقد حاد وساخر، لكن هذا النقد يعتبر نقداً للذات، وقد برز ذلك من خلال التعليقات التي نشرها المستخدمون في مواقع التواصل الإلكترونية، وطيلة عرض الحدث - من خلال متابعة «تويتر» - لم أقرأ أكثر من 20 رسالة تتكلم عن الحدث في موضوعه، أو تناقش قيمته العلمية، فقد كان هناك موجة من التعبيرات الساخرة، وبطبيعة الحال، فالأفراد يجدون في النكتة متنفساً لمشكلاتهم، والرسومات والصور الكاريكاتورية في تعبيرات المستخدمين أبلغ من وصفي لها، وكأن هذا الحدث قد نبهنا إلى نواقصنا، وإن كان ذلك مثيراً للمواجع إلا أني اعتده مؤشراً جيداً، لأن «نقد الذات» هو الحافز وأصل البدايات. في اليوم التالي ظهرت مجموعة من التساؤلات التشكيكية، نُشرت وتم تداولها عبر «الإنترنت»، وعلى رغم أنها لا تُبنى على أي أسس علمية صحيحة، ولا يعني أنني أصادر رأي صاحبها، فمن حقه أن يتساءل وفق إدراكه العقلي، على رغم أن أسئلته لا يمكن أن تُدرج في النقاش وفق المنهجية العلمية أصلاً، فهو بحاجة إلى أن يقرأ في المبادئ المبسطة للفيزياء لكي ينأى بنفسه عن طرح مثل هذه الأسئلة، يذكر أن الكثير من الجمهور الذي كان ينتقد واقع العجز العلمي ومشكلة العرقلة الإنسانية التي نعيشها في واقعنا، تجمهر حول هذه التساؤلات غير المنطقية مدافعاً عنها، باعتبار قفزة «فيليكس» خُدعة؟! وكأن ما ورد في هذه الأسئلة إثبات علمي وحجة تقتضي أن ذلك الإنجاز يساعد في نجاح المؤامرة الغربية! ثم تعمدت أن أدخل إلى ملفات الأشخاص الذين يدافعون عن هذا التوجه فوجدت أكثرهم متعلمين، وقد كان هذا صادماً، غير أن ما في الأمر هي رغبتهم في تكذيب الحدث وتشييع أي رأي مخالف للتقليل من الإنجازات التي لم ينبض تطورنا حتى اليوم إلا بفضلها، فهذا الهوس ضد التطور الغربي يعوق تفكير البعض ولو لم توجد عليه دلالات منطقية. هؤلاء الذين لا يزالون قابعين تحت حاجز الصمت، والذين لا يتهيؤون لأبسط متطلبات التغيير، يظنون أن النعيم ليس إلا في السماء، ورضوا عن بؤسهم في الأرض، يرون أن مصالحهم لدى الذين يحاربون التنوير والرأي المخالف، ولا يعلمون أنهم هم الذين يصنعون الأزمة الفكرية ويخافون من ظهور الحقائق، فجهل الناس ورقة مربحة يستفيد منها الفاسدون. إن الحياة بدائية وضحلة من دون التطور العلمي، ولا نقلل من قدر المبدعين والمبدعات العرب إلا أن عددهم ضحل جداً، فالأمة التي لا تبني الإبداع في أفرادها معرضة للفقر والجوع، ومهددة بالحياة الأسوأ، والشعوب المتقدمة تصنع مجدها وتحقق إنجازاتها لأجل البشرية تعطي أكثر من أن تستأثر لنفسها، بل إنهم يضحون بأنفسهم في أرقى صور التنافس المثمر، ومن يشاهد الحماسة التي ظهرت على «جوزيف كتنغر»، الذي درب «فيلكيس» ليقفز من فوق إنجازه ولينجح، وكيف كان داعماً له ومحفزاً لعمله، يصيبه التوجس بشأن أخلاقنا وثقافتنا التي نطمع في إعمارها بعيداً من الحسد والتباغض والسرقة. في هذا تذكرت المأثرة العظيمة للدكتور غازي القصيبي، رحمة الله عليه، حين قال: «أرى أن هذا العالم يتسع لكل الناجحين، بالغاً ما بلغ عددهم، وكنت ولا أزال أرى أن أي نجاح لا يتحقق إلا بفشل الآخرين هو في حقيقته هزيمة ترتدي ثياب النصر». * كاتبة سعودية. [email protected] @alshehri_maha