إذا كان الموسيقي الألماني الكبير ريتشارد فاغنر قد عرف بأنه واحد من قلة من الموسيقيين آثرت دائماً أن تؤلف الأوبرا، بدلاً من كتابة الموسيقى الخالصة، مثله في هذا مثل كبار الموسيقيين الإيطاليين كفيردي وروسيني، فإن الأمر بالنسبة إليه لم يكن صدفة، هو الذي أدى تعمّقه في كتابة الأوبرا، إلى ولادة بعض اعظم الأوبرات في تاريخ الفن الموسيقي، مثل «بارسيفال» و»لوهنغرين» و»الخاتم» و»أساطين الغناء في نورمبورغ». أما تعمّقه هذا فإنه إنما جاء استجابة لموقف محدد ولطروحات نظرية، عبّر عنها، في شكل أساسي، في كتابه «الأوبرا والدراما» الذي اصدره العام 1852 في ثلاثة أجزاء، تشكل في رأي الكثر خلاصة تجربته والأفضل بين كتاباته النظرية الخصبة التي جمعت في عشرة أجزاء في طبعتها الألمانية الأولى. وفاغنر وضع هذا الكتاب المهم، والصعب في الوقت نفسه، في وقت كان «يرتاح» فيه من كتابة الأوبرات ويحاول أن «يداوي» نفسه من إحباطاته السياسية إثر إخفاق الثورات الكثيرة التي انفجرت في أوروبا أواسط القرن التاسع عشر، وكان فاغنر ساهم في بعضها (ثورة درسدن) وأمل الكثير من بعضها الآخر (ثورة باريس). وهو كان في ذلك الحين يموضع نفسه، من الناحية السياسية، في خط اليسار المتطرف، واصلاً إلى التأثر بأفكار الفوضوي باكونين، قبل أن تغلفه تشاؤمية شوبنهاور إثر ذلك واعتباراً من العام 1854. وقبل ذلك، وتحديداً في كتابه المهم الآخر «الفن والثورة»، وهو نص شفاف ومختصر اصدره فاغنر في العام 1849، كان الموسيقيّ الألمانيّ المبدع عبّر عن تأثره بأفكار اليسار الهيغلي عموماً، وبأفكار فيورباخ على وجه الخصوص. والحال أن فاغنر، في مضمار الاستناد إلى تلك التأثيرات السياسية «المتطرفة» كان نسيج وحده بين الموسيقيين، إذ كان معروف في ذلك الزمن أن الموسيقيين هم الأكثر حيادية، إن لم يكونوا الأكثر محافظة بين المبدعين الفنيين. أما فاغنر فكان يجاهر بثوريته ورغبته في قلب أنظمة الحكم والسعي إلى الحرية والمساواة. ولعل النهايات العنيفة لمعظم أعماله الموسيقية، تعبّر عن إخفاقاته السياسية اكثر مما تعبر عنها كتابته. لكن هذا لا يعني أن كتاب «الفن والثورة» لم يكن كتاباً ثورياً، في كل معنى الكلمة، هو الذي كان واحداً من أولى الكتابات النظرية التي وضعها فاغنر. وهذا الأخير وضع «الفن والثورة» تحديداً غداة إخفاق ثورة درسدن، ما جعل الهموم السياسية والاجتماعية تطغى على الكتاب الذي أتى أشبه ببيان عنيف وتحريضي حول الأدب والفن، يتمحور من حول ضرورة دمج مفهوم «الإنسان القديم» الجميل الحر والقوي» في الوعي الحديث. ولكن في مقابل ثورية هذا الكتاب وطابعه السجالي السياسي العنيف، يبدو الكتاب الذي نحن في صدده هنا، أي «الأوبرا والدراما» اكثر تقنية ودنواً من المواضيع الفنية البحتة. وفاغنر، الذي كان عند ذاك، ودائماً أيضاً، مؤمناً بالأوبرا كفن يجمع الموسيقى والشعر والمسرح في بوتقة واحدة، كان يستكثر على الفنان أن يصرف وقته وطاقاته ومواهبه في تأليف قطع موسيقية من دون شعر، مهما بلغ سمو تلك القطع على ايدي فنانين كبار مثل باخ وفيفالدي. ولقد عبر فاغنر عن ذلك الموقف في مقطع من كتابه يقول فيه - بحسب ترجمة د.ثروت عكاشة في واحد من فصول كتابه الممتع «موسوعة الموسيقى، فاغنر» -: «إن كل إطار موسيقي هو من طبيعة أنثوية، أي انه مجرد «رحم» وليست له طبيعة «الملقح»، بل إن القوة المخصبة خارجة عنه، ولا يمكن «للرحم الموسيقي» أن «يحمل» من دون هذه القوة المخصبة. لذلك استدعى بيتهوفن الشاعر لكي يخصب موسيقاه، في حين فشلت المحاولات الجنونية التي قامت بها الموسيقى المطلقة من اجل إخصاب نفسها بنفسها. إن الموسيقى امرأة طبيعتها الاستسلام للحب. ترى من هو ذلك الرجل الذي تستسلم لحبه؟ إنه الشاعر». إذاً، انطلاقاً من هذه الفكرة التأسيسية صاغ فاغنر أجزاء هذا الكتاب الثلاثة في العام 1852، حين انصرف ليعيش هادئاً متأملاً في زيوريخ بسويسرا، بعد فترة الصخب الثوري التي عاشها وأعطته آمالاً كبيرة سرعان ما خابت. والحال أن فشل الثورة وانهيار الأحلام السياسية، لم يبعدا فاغنر عن مثله العليا الثورية، التي نكاد نلمحها، حتى في خلفية الصفحات الأكثر تقنية في هذا الكتاب. وهي مثل عليا مبنية على أساس أفكار تجمع فوضوية باكونين إلى تفاؤلية فيورباخ العلمانية، لتصنيع بوتقة واحدة شعارها إعادة بناء شاملة للمجتمع، تشمل إعادة بناء جذرية لذلك النوع الفني الذي لطالما أثار ضروب سوء الفهم: الموسيقى، ولا سيما الأوبرا. وفي سبيل إعادة البناء هذه - وهي عملية تستدعي، بالضرورة، الهدم في المقام الأول - وضع فاغنر هذا الكتاب الذي يتضمن جزؤه الأول، وبحسب تفسير فاغنر نفسه «نقداً للأوبرا بصفتها نوعاً فنياً معيناً ومحدداً»، فيما يتضمن الجزء الثاني «بحثاً في الدراما والمادة الدرامية»، بينما يحتوي الجزء الثالث الأخير على «المادة البناءة» أي التصور المستقبلي الذي أراد فاغنر أن يرسمه للعلاقة العضوية بين الشعر (كمادة درامية ذكورية، بحسب تعبير فاغنر) والموسيقى كمادة «أنثوية قابلة للتخصيب»، ودائماً بحسب تعبير فناننا. في المتن الأساسي لنصه يقول لنا فاغنر إن خطأ الأوبرا الأساسي يكمن في أنها جعلت من وسيلة التعبير الفنية الخاصة بها، أي الموسيقى، غايتها الأساسية، معتبرة «التعبير الدرامي وسيلة لا أكثر». ومن الواضح هنا أن فاغنر إنما استخدم أجزاء كتابه وفصوله وصفحاته، وخبرته الموسيقية والشعرية والنظرية، من اجل إعادة التوازن بين العنصرين الأساسيين في اللعبة الأوبرالية، أي الشعر والموسيقى، ولكي يؤكد في الجزء الثالث من الكتاب، وتحت شعار «الشعر والموسيقى في دراما المستقبل»، ضرورة استعادة البراءة الأولى للفن الأوبرالي عبر «مزج لغتنا المعاصرة الجافة بالموسيقى، في مسعى يقظ للعثور على القوانين الأولية التي استندت إلى الإيقاع والقافية والوزن الشعري». إن الشاعر والموسيقي، في رأي فاغنر «لم يقدما الإنسان حتى اليوم إلا على شكل نصفين» والمطلوب الآن «إعادة وحدته إليه». ويرى فاغنر أن هذه هي مهمة نظرياته. غير أن صاحب «الهولندي الطائر» لا يكتفي بهذا الطرح، بل انه في سياق هذا الكتاب المهم، يكشف لنا مفاتيح أعماله، دارساً علاقة الصوت بالأوركسترا، ليصل إلى الاستنتاج الذي يقول بعدم إمكان أن يكون هناك أي فصل بين الكلام والموسيقى. والحقيقة أن كلّ هذا الكلام الذي كتبه ريتشارد فاغنر من حول موضوع لم يكن طرحه جديداً على أية حال حين تناوله، لم يأت لديه مجرد طروحات نظرية...إذ علينا ألا ننسى هنا أن فاغنر، وإن أبدى في صفحات الأجزاء الثلاثة لهذا الكتاب الفريد من نوعه عمق معرفة نظرية بالموضوع يمكن القول إنها كانت نادرة لدى المؤلفين الموسيقيين الذين ما اعتادوا القيام بمحاولات جدية للتنظير لمؤلفاتهم الموسيقية تاركين المهمة للنقاد والباحثين والمؤرخين، فاغنر هذا يبدو في هذه النصوص متساوقاً تماماً مع ممارساته الإبداعية التي اشتهر عنها كونها مزدوجة حيث أن الرجل لم يفعل دائماً فعل غيره من مؤلفي الأوبرات بالاستعانة بشعراء أو ناظمين يضع موسيقى لأشعارهم، بل كان يتعمد كتابة النصوص الشعرية بأعماله لنفسه مقتبساً إياها في معظم الأحيان من الأساطير الجرمانية القديمة أو من الحكايات الشعبية الشفهية. ومن هنا ما يقال عادة من إن أوبرات فاغنر تبدو قرينة من نصوص المسرح الذهني ويمكن قراءتها حتى خارج إطار أبعادها الموسيقية. ما يعني هنا أن فاغنر، حين وضع كتابه الذي نحن في صدده، كان يعرف تماماً عمّا يتكلم. ولد ريتشارد فاغنر العام 1813 ومات العام 1883، ما يعني انه عاش القرن التاسع عشر كله تقريباً أو على الأقل اهم سنوات القرن، وهو تقلب فيه، وأبدع له بعض اروع أعماله الأوبرالية، متنقلاً بين المواقف والبلدان، مازجاً السياسة بالموسيقى، والأخلاق بالانتهازية، جاعلاً من نفسه قطب حياة موسيقية/ فلسفية/ سياسية، لا يضاهي حضوره فيها، حضور أي من مواطنيه أو معاصريه. [email protected]