الشطر الثاني من 2009 هو من نصيب المانيا وسياستها. ففي أثنائه تجرى الانتخابات العامة، ويحتفل بالذكرى العشرين لسقوط جدار برلين، مقدمة للاحتفال بذكرى التوحيد من جديد. وقد يكون للذكرى تأثير في الاقتراع، ففي الأثناء، استقرت أسطورة سياسية المانية تشوه تناول الماضي وفهمه على نحو ما تحرف تناول الحاضر والنظر الى المستقبل. وعلى هذا، يحسب ألمان كثر أن مواطنيهم المقيمين بشرق ألمانيا ثاروا على الديكتاتورية الشيوعية، وأسقطوها، وهدموا جدار برلين. وهم يحسبون، كذلك، أنهم هم وحدهم عمروا بلدهم، بينما كانت بلدان جنوب أوروبا تنساق برغد العيش والبطالة. وهذا بعيد من النظرة الى التاريخ وحوادثه التي غلبت من أواخر الحرب العالمية الأولى. فيومها، رفض الألمان الإقرار بأنهم خسروا الحرب. وبعيد النظرة غداة الحرب الثانية. فهذه رفض شطر غالب من الألمان الإقرار بأنهم بادروا اليها وخاضوها. والحق أنه ينبغي بت الأسطورة هذه وحسمها. فهي السبب في شعور الاستعلاء الذي يصيب الألمان ويحملهم على إملاء نظرتهم الى الأخلاق والاقتصاد، وعلى الحذر من الاندماج الأوروبي السياسي. ولا بأس،عليه، بالتذكير ببعض البداهات. فلا دور لألمانيا في إعادة توحيدها، وهذه ثمرة قرار ميخائيل غورباتشيف الأحادي بتطوير الكتلة السوفياتية، وجرها الى الديموقراطية من غير إطلاق النار على الجموع. وسقوط الجدار واقعة رمزية. فقبل شهرين، كان في مستطاع ألمان الشرق الانتقال الى الغرب، من غير حاجز، من طريق الحدود بين المجر والنمسا. ولم يسدد الألمان كلفة إعادة التوحيد، بل سددها شركاؤهم (الأوروبية). فصرف المارك الشرقي بمارك غربي جر ثروات ضخمة من البلدان الأوروبية الأخرى الى المانياالجديدة. وأخيراً، ليس اليورو ثمرة إعادة التوحيد، بل هو من ميراث الدينامية الأوروبية السابقة. وكل ما تبع هذا يجوز أن يحمل على استراتيجية المانية عنيدة رمت الى حل الاتحاد الأوروبي، وتذوبيه في مجموعة (بلدان) غائمة الروابط. فدعت المانيا الى زبادة عدد البلدان في الاتحاد من غير قيد. وأضعفت زيادة العدد غير المحسوبة المؤسسات والهيئات الأوروبية. وحل اليورو محل المارك. وتربعت العلاقات ببلدان شرق أوروبا في سدة العلاقات الدولية كلها أو معظمها. وغلبت الهوية البروسية على ألمانيا، وتقدمت الهوية البافارية. وألمانيا هذه، قد تقودها أزمة اقتصادية قاسية الى الحمائية، والى تغليب النازع القومي. وهذا كله، كان في الوسع صده واحتواؤه، على مثال السياسة بإزاء تركيا، ومخاطبة بلدان شرق أوروبا بالقول: «أصلحوا أحوالكم، ومن بعد هذا، نرَ». فكان في المستطاع اقتراح خطط فرنسية - المانية على ألمانيا، فينتهي بها الأمر الى التسليم ببعضها. وارتكب المسؤولون الفرنسيون خطأ مأسوياً حين استنكفوا عن هذه السياسة طوال 20 عاماً. ولا بأس بالتذكير بأن الاتحاد الأوروبي نهض رداً على أربعة تهديدات مصادرها الاتحاد السوفياتي والانسحاب الأميركي والوحش الألماني والجبن الفرنسي. والحق أن التهديدات هذه لم تطوَ، ولم تنصرم. ولا سبيل الى كبحها وعلاجها إلا بدمج هيئات فرنساوألمانيا السياسية، وإعداد العدة لإنشاء جيش أوروبي لا يقل قوة عن الجيش الأميركي، واقتراح شراكة متينة على روسيا. وهذه المقترحات سبق اليها تشرشل وبريّان وستريسمان وراتناو في عشرينات القرن الماضي. ولو تلقى المعاصرون المقترحات هذه بالقبول لتفادينا مآسي كثيرة. * معلق ومستشار سياسي واقتصادي، عن «لكسبريس» الفرنسية، 30/7/2009، إعداد و. ش.