بعد خوض الشيخين صالح الفوزان وحاتم العوني سجالاً سابقاً حول زواج القاصرات، والخلاف حول مشروعية تقنين ذلك أو إطلاقه، تجدد السجال بين عضو هيئة كبار العلماء الفوزان، وعضو مجلس الشورى العوني حول ما إذا كان مشروع «السلام عليك أيها النبي» الذي أطلق أخيراً في مكةالمكرمة، «بدعة محدثة تفضي إلى الشرك»، أو أنه عمل مباح يعرف بالنبي عليه الصلاة والسلام ولا يحمل أي محظور. وفي رد مطول خص به العوني «الحياة»، حاول ما استطاع إقناع القارئ بأن الفوزان لم يكن مقنعاً في تبريراته للقول بتحريم المشروع، كما أنه تجاوز حدود الخلاف الفقهي السائغ عندما شنع على العوني وأمثاله من الفقهاء الذين رأوا مشروع «السلام عليك أيها النبي» إضافة جديدة إلى إشاعة سيرة النبي وحياته وهديه، وفي ما يأتي نص رد العوني المطول: «حرصت أن يكون كلامي واضحاً حتى عند غير المختص في الشريعة، فسأجعل الكلام موجهاً للقارئ الكريم والمتابع لهذا النقاش، وليس موجهاً إلى فضيلته (وفقه الله)، إذ علق الشيخ الفوزان على قولي: «هذا العمل ليس بدعة وإنما هو من المصلحة المرسلة وليس من التعبد، وإنما هي وسيلة لتحقيق عبادة»، بقوله: «يلاحظ عليه: التناقض بين قوله: ليس من التعبد وقوله إنه وسيلة للعبادة، إذ الوسيلة للعبادة عبادة مثل المشي للصلاة في المسجد، فالمشي عبادة لأنه وسيلة للعبادة يؤجر عليها بكل خطوة حسنة ويحط عنه سيئة، كما في الحديث». والجواب: ما زال هذا الكلام يدل على عدم تفريق الشيخ بين البدعة المحرمة والمصلحة المرسلة المباحة، مع أني بينت الفرق بينهما في جوابي السابق. وأهم فارق في المصالح المرسلة (التي لم يأمر بها الشرع ولم ينهَ عنها) يجعلها لا تدخل في الابتداع: هو عدم قصد التعبّد بها، وإنما الاكتفاء بالتوسل بها إلى العبادة، واتخاذها طريقاً للوصول إلى العبادة، وهذا كركوب السيارة إلى المسجد وبناء المآذن، ليرتفع منها صوت الأذان ويصل إلى أبعد مدى ممكن (قبل مكبرات الصوت)، وكمكبرات الصوت الحديثة، وكإضاءة المساجد بالمصابيح الكهربائية، وكوضع الكُنف (الحمامات) بجوار المساجد، وكخطوط السجاد التي تعين على تسوية الصفوف... وغير ذلك من وسائل تحقيق العبادة وتيسيرها التي لم تكن موجودة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. ومع كون هذه الأمور لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ومع كون بعضها مما كان يمكن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها، كبناء المآذن، وكالاستعانة على تسوية الصف بعلامة على الأرض، إلا أنها لا تدخل في مسمى البدعة ولا في حكمها؛ لأن قصد التعبد بها ليس وارداً وإنما يتعامل الناس معها على أنها وسائل لتحقيق المقصد الشرعي، كإبلاغ صوت الأذان وتسوية الصفوف. وبهذا اتضح أن المصالح المرسلة التي يُتوسَّل بها إلى العبادات لا تكون بدعة لمجرد أنها لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا للزم أن تكون كل تلك الأمور التي لا يقول ببدعيتها عالم ولا عاقل كلُّها بدعاً وضلالات! من ركوب السيارات إلى خطوط السجاد!! وأما خلط الشيخ بين هذه الوسائل التي لم يأمر بها الشرع ولم ينهَ عنها بالوسائل التي أمر بها الشرع (كالمشي إلى المسجد) الذي استحبه الشرع وحث عليه ورتّب عليه الأجر، فهو خلط في غير محله، ولا معنى له؛ لأن هذا النوع من وسائل العبادات لم تصبح عبادة بمجرد كونها وسيلة للعبادة، وإنما أصبحت عبادة لما جاء نص الوحي يدل على أنها عبادة، ولولا ذلك لما جاز لأحد أن يتعبد الله تعالى بها، ولتساوى الراكب والماشي في الأجر، ولما جاز لأحد أن يتعبد الله تعالى بمجرد المشي إلى المسجد، كما لا يتعبد الله أحد بالمشي إلى السوق، وإن كان ذاهباً إلى السوق لخيرٍ من التقوِّي بالتجارة على التعفّف والاستعانة بالمال على الحق. وإني لأستغرب من إطلاق الشيخ - وفقه الله - في قوله : «إذ الوسيلة للعبادة عبادة»، فهو قول لا يقول بإطلاقه أحد من أهل العلم، وأطالب الشيخ بعالم واحد قال: إن كل وسيلة يُتوسّل بها إلى عبادة فهي عبادة لا تجوز إلا إذا دل عليها الوحي. هذا القول قول باطل، لا يقول به أحد، ولا يلتزم بلوازمه أحد، ولا الشيخ نفسه؛ إلا إذا كان الشيخ سيحرم ويبدِّع ركوب السيارة إلى المسجد، وبناء المآذن ومكبرات الصوت الحديثة، وإضاءة المساجد بالمصابيح الكهربائية.. إلخ! فهذه كلها وسائل للعبادة، ولا يقول أحد إنها عبادة بحد ذاتها، كالوسائل التي جعلتها النصوص عبادات، لا يقول أحد بذلك، ولا الشيخ نفسه. وهنا يتبين التناقض الواضح في تقرير فضيلته، إذ جعل كل وسيلة للعبادة عبادة بلا دليل، وبلا قولٍ سابق من إمام معتبر، ثم هو يجيز وسائل إلى عبادات لم يدل الدليل على أنها عبادات بحد ذاتها. وهنا أعود سائلاً الشيخ: ما هي المصالح المرسلة عندك، إذا كانت كل وسائل العبادات عبادات لا بد أن ينص عليها الوحي؟! ثم يقول الشيخ وفقه الله: «إنه من المصلحة المرسلة، نقول المصلحة المرسلة لا تأتي في العبادات وأمور العقيدة، لأنها توقيفية وفيها خلاف بين الأصوليين وتعارض قاعدة سد الذرائع المفضية إلى الشرك، وهي قاعدة عظيمة دل عليها الكتاب والسنة». وتضمن هذا الكلام أخطاءً عدة، ما كنت أظنها تصدر من الشيخ، الأول: قوله «المصلحة المرسلة لا تأتي في العبادات وأمور العقيدة، لأنها توقيفية»، هذا مبني على قوله: «إن كل وسيلة للعبادة عبادة»، وهو القول الذي بينت بطلانه آنفاً، وأنه لا يقول بإطلاقه ولا بلوازمه أحد، حتى الشيخ نفسه! وبهذا انتهينا من هذا الكلام، وتبين أنه ليس في مصلحة رأي الشيخ بل هو ضده. وقد بينت وأكدت وكررت: أن «المصلحة المرسلة» لا تكون ابتداعاً لعبادة لم يأذن بها الله تعالى؛ إلا إذا قُصد بها «بذاتها» التعبّد، ولا تكون عبادة مبتدعةً بغير ذلك. الثاني: قوله عن المصالح المرسلة: «وفيها خلاف بين الأصوليين»، وهذا جوابه: أنه إن قصد الشيخ مجرد حكاية الاختلاف فيها، فقد حُكي الاختلاف في حجية «المصالح المرسلة» وفي «سد الذرائع» أيضاً، سواءً بسواء، فكلاهما حُكي فيهما الاختلاف. فلماذا يحتج بالخلاف في «المصالح المرسلة»، ويُوهّنها بذلك، ولا يحتج به في «سد الذرائع» ليوهّنه أيضاً؟! هذا مع أن كلا «المصالح المرسلة» و«سد الذرائع» مع حكاية الاختلاف فيهما، فقد حُكي عليهما الاتفاق أيضاً! وممن حكى الاتفاق على العمل بالمصلحة المرسلة الإمام القرافي والزركشي والعلامة محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان، حتى ذكر أن إجماع الصحابة على العمل بها قطعي الثبوت. وهذا الإجماع هو ما توصل إليه الدكتور محمد أحمد بوركاب في دراسة أصولية متخصصة في أكثر من 600 صحيفة، وهي كتاب (المصالح المرسلة وأثرها في مرونة الفقه الإسلامي). وإذا كان الشيخ - وفقه الله - لا يرى صحة العمل بالمصالح المرسلة مطلقاً، على رغم هذا الإجماع عليه، فليفصح عن ذلك بوضوح، وإلا فلا داعي لحكايةِ اختلافٍ لا يراه هو نفسه حجةً في إبطال الاعتماد على المصالح المرسلة في تصحيح العمل! وإذا كان الشيخ - وفقه الله - لا يرى صحة الاحتجاج بالمصالح المرسلة مطلقاً: فبماذا سيجيب على كل وسيلة لعبادة لم يأمر بها الشرع، ولا نهى عنها، ولا قُصد بها التعبد مما يبيحها هو نفسه، كبعض الوسائل التي كررت ضرب المثل بها سابقاً، وغيرها مما يأتي ذكرها، وبعضها مباحة بالإجماع اليقيني! هل لهذه الوسائل عنده دليل على عدم منعها وعدم تحريمها؛ إلا أنها مصلحة مرسلة؟! ثالثاً: يقول الشيخ عن المصالح المرسلة: «وتعارض قاعدة سد الذرائع المفضية إلى الشرك، وهي قاعدة عظيمة دل عليها الكتاب والسنة». وهذا نمط من الاستدلال غريب جداً؛ لأنه يحتج لإبطال الاستدلال ب«المصالح المرسلة» بأنها تعارض قاعدة «سد الذرائع»، فإن قصد الإطلاقَ، فلا يمكن ذلك ولا يُتصور وقوعه، فالمصالح المرسلة مصالح، وسد ذرائع المفاسد سدٌّ لمفاسد، فكيف يمكن أن تكون إباحة المصالح باطلة لأنها مفاسد؟! هذا كلام لا يستقيم أصلاً! ولا يمكن تصوره؛ لأنه يجمع في مضامينه بين الضدين: المصالح والمفاسد!! وإن قصد أن الاستدلال ب«المصالح المرسلة» هنا خاصة لا يصح، وإن كان يصح في غير هذا المحل «وإن كان سياق كلامه لا يدل على هذا المراد؛ لأنه قدم بذكر الاختلاف في صحة الاحتجاج بالمصالح المرسلة»، فسيكون معنى كلامه أن الصورة محل النزاع ليست وسيلة إلى مصلحة أصلاً، وإنما هي وسيلة إلى مفسدة يجب سد الذرائع دونها، فإن قصد ذلك فهو قصد لا يستقيم أبداً أيضاً؛ لأن التعريف بالنبي صلى الله عليه وسلم وتعميق فهم سيرته واستثارة محبته كلها مصالح عظيمة ليست من المفاسد في شيء، والتوسل إليها بالمشروع المختلف فيه توسلٌ مرسَلٌ إلى مصلحة عظيمة. وأما كون المشروع محل الاختلاف ذريعة إلى الشرك، فهذا هو محل الاختلاف بيننا أصلاً، ولا يصح الاحتجاج بمحل النزاع! ومثل هذا الاحتجاج والكلام المتناقض ما كنت أود أن اضطر إلى الرد عليه، ثم يقول الشيخ: «ولا شك أن عمل هذه المجسمات ونسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وسيلة إلى التبرك بها، وما كان وسيلة إلى الحرام أو الشرك فهو حرام». أولاً: هذا الذي يقول عنه الشيخ «ولا شك» خالفه فيه مئات العلماء والباحثين، ومنهم عدد من زملائه أعضاء هيئة كبار العلماء ومعالي وزير الشؤون الإسلامية وغيرهم! فمن أين جاء اليقين؟ والمسألة يخالفه فيها كثير من أهل العلم؟! ثانياً: يقول الشيخ: «ونسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم»، لم ينسبها أحد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا قال أحد إنها هي هي نفسها التي كانت في زمنه صلى الله عليه وسلم، بل يعلن المشروع ويصيح القائمون عليه، ويكتبون أنها مجرد مصنوعات حديثة تشبه ما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولا علاقة لها به صلى الله عليه وسلم إلا هذا الشبه في الصُّنع. ولذلك فستكون نتيجة كلامه غير صحيحة عندما قال: «ولا شك أن عمل هذه المجسمات ونسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وسيلة إلى التبرك بها، وما كان وسيلة إلى الحرام أو الشرك فهو حرام»؛ لأنه لم يبين من أين نبتت له هذه النتيجة، ولا ما الذي جعله يتيقن منها ولا يظن، حتى قدّم قوله بنفي الشك، ما دام الناس يعلمون أنها مصنوعات حديثة، وأنها ليس لها علاقة بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم».