ما إن انتهى الدكتور حاتم العوني الشريف من معركة «السلفية الحقة» حتى فتح ملف «المولد» الذي ربما انقلب إلى غزوة أخرى. وفي نقاش عن الموضوع، اعتبر الاحتفال بالمولد النبوي الذي يحتفل به بعض المسلمين وسط الأسبوع المقبل، يكون حلالاً بشروط. فيما يختلف معه آخرون من المدرسة السلفية التي ينتمي إليها، يرون في الاحتفال بدعة محضة لا ريب فيها. وفي ما يأتي نص فكرته: أولاً: يجب أن يكون الحديث عن حكم المولد بعلم وعدل، وألا ننكر اختلاف العلماء فيه، وأن هناك بعض جلة العلماء حكى استحبابه بشروط. بل هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم)، مع حكمه على المولد بأنه بدعة؛ إلا أنه عذر مقيميه بل اعتقد حصول الأجر العظيم لهم فيه، فقال (رحمه الله): (فتعظيم المولد، واتخاذه موسماً، قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم؛ لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. كما قدمته لك: أنه قد يحسن من بعض الناس، ما يستقبح من المؤمن المسدد). ثانياً: أما لتفصيل حكمه: فأقول: من استثمر يوم المولد للتذكير بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم أو لإذكاء عاطفة حبه في نفوس المسلمين من غير غلو (كاستغاثة) ولا مصاحبة منكرات (كاختلاط) ولا خرافات (كدعوى حضوره صلى الله عليه وسلم يقظة) ومن غير اعتقاد فضل خاص لهذا التذكير في يوم محدد وإنما هو من باب استثمار تاريخ الحدث الجليل في استحضاره في النفس كما يستحضر الخطباء يوم بدر في السابع عشر من رمضان ويوم الفتح في العشرين منه ويوم الهجرة في بداية السنة الهجرية، فهو حلال لأنه لم يعد يرتبط به اعتقاد عبادة مبتدعة، وانتقل بهذه الشروط من البدعة إلى المصلحة المرسلة، فهو لا يتضمن إلا مجرد اتخاذ للوسائل المبلغة لمصلحة شرعية وهي: التذكير بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، أو لإذكاء عاطفة حبه في نفوس المسلمين. وأجد أنه من الضروري لتصحيح الحكم بالإباحة: التأكيد دائماً على من يحضرون الموالد ويقيمونها على أمور: - أن إقامة تلك الدروس والاحتفالات (الخالية من المنكرات) ليس لأن إقامة المولد عبادة، وإنما لأنه مجرد استثمار لوقت الحدث من أجل تحقيق مصلحة شرعية منه. - أنه ليس ليوم المولد السنوي خاصية ولا فضيلة ثابتة. - بيان منكرات الاعتقادات والأقوال والأفعال المقطوع ببطلانها التي تنتشر في كثير من الموالد. فمع هذه الشروط لا أجد في المولد بدعة ولا ما يدعو فيه للإنكار عليه وعلى مقيميه. كما أنني لا أجد حرجاً في قول من امتنع من إقامته امتناعاً مطلقاً من باب مدافعة الخلل الكبير الذي يحصل فيه وسداً لذرائع المنكرات المنتشرة فيه؛ إذا كان صاحب هذا القول الممانع لا يبالغ في ممانعته فلا ينكر على من أباحه بتلك الشروط ويجيز اختلاف الاجتهاد فيه ما دام ملتزماً بتلك الشرائط. فهذا القول بهذا الشرط قول سائغ، له ما يجعل له حظاً من النظر. والواقع أن شبه هذا يحصل عندنا في السعودية من دون نكير، فعامة خطب الجمعة وكثير من مواعظ المساجد عندنا تتحدث عن المولد بإنكاره قرب موعده السنوي (في آخر خطبة قبله، أو عشية ليلته)، وهي ربما بدأت بذكر فضائل النبي صلى الله عليه وسلم وحقوقه على أمته، ثم تختم بذكر منكرات الموالد. فهي أقامت المولد الذي أرى إباحته لكنها لم تسمه بالمولد. ونحوه: ما كتبه ويكتبه علماؤنا في مجالس شهر رمضان ككتاب الشيخ ابن عثيمين (رحمه الله) الذي فيه تذكير بغزوتي بدر والفتح في يوميهما من رمضان. وأراد الشيخ (رحمه الله) أن يقرأه الناس في المساجد كل سنة ويرجو هو (رحمه الله) ومن يريد له استمرار الأجر به: ألا تنقطع قراءة هذه المجالس في كل رمضان من كل سنة وأن يعمّ وينتشر بين المسلمين، وكثيراً ما يحصل ذلك في مساجدنا ويتكرر كل سنة. فتكرار قراءة خبر هاتين الغزوتين في يومين محددين من كل سنة لم يجعل هذا الفعل بدعة؛ لأن هذا التحديد لم يقع على وجه التعبّد به؛ وإنما على وجه استثمار تاريخه في زيادة التأثير به وفي ترسيخ تاريخه وفي تذكّر نعمة الله تعالى علينا بهذين اليومين العظيمين في تاريخ الإسلام. وكحل وسط: أصبح كثير من مقيمي الموالد لا يلتزمون بالموعد السنوي المحدّد، فيقيمون مجالس تذكير بفضائله صلى الله عليه وسلم في عرض العام ومرات عدة فيه. وهذا المولد إذا خلا من بقية منكرات بعض الموالد فلا إشكال فيه البتة بشرط عدم اعتقاد كونه عبادةً مقصودة لذاتها. الخلاصة: ومن هذا يتضح أنه يجب التفريق بين صورتين للمولد: - صورة يكون فيها المولد من المصالح المرسلة: وذلك إذا كان بقصد استثمار تاريخ هذا الحدث الجليل للتذكير بسيرته صلى الله عليه وسلم أو لإذكاء جذوة محبته صلى الله عليه وسلم في القلوب من غير اعتقاد فضيلة خاصة لليوم تجيز تخصيصه بعبادة أو باعتقاد لا دليل عليه. وهذه الصورة هي التي استحسنها كثير من العلماء كأبي شامة وابن ناصر الدين وغيرهما كثير من سادة الأمة. - وصورة يكون فيها بدعة حتى لو خلا من الغلو والمنكرات، وهو في ما لو خُصَّ هذا اليوم باعتقاد فضل يخصه وصار يُظن أنه ترتبط به عبادات يزداد أجرها فيه، أو أن مثل تلك الاحتفالات في هذا اليوم المخصوص مقصودة لذاتها، كما تُقصد العبادات المشروعة لذاتها. وهذه الصورة هي التي استنكرها كثير من العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من سادة الأمة. هذا هو حكم المولد إجمالاً، فإذا أصبح يوم إجازة رسمياً واحتفالاً عاماً كل سنة، فهذا يدخله في مسألة أخرى: وهي هل هذا مما يجعله عيداً فينهى عنه لذلك أم أن العيد الذي ينهى المسلمون عنه هو العيد المرتبط بعبادة فقط دونما كان لا يرتبط بعبادة كاليوم الوطني. فالمولد بالشروط المذكورة لا يكون فيه اعتقاد تعبد باليوم المحدد ولا يرتبط بعبادة (كصلاتي عيد الفطر والأضحى وزكاة الفطر والضحية)، وهو بذلك لا يكون محرماً؛ إلا عند من يحرم الاحتفال العام مطلقاً ويلحقه بمجرد اعتياده وعمومه بالأعياد. وفي هذه المسألة (مسألة الاحتفال العام ومتى يلتحق بالأعياد المنهي عنها ومتى لا يلتحق) خلاف معتبر، ووجهتا نظر للعلماء.