بدا واضحاً أن الأزمة التي يعاني منها إنجاز دستور مصر بعد الثورة، هي بالأساس سعي الأطراف المختلفة إلى استخدام الدستور في «اللعبة الانتخابية» المقبلة بهدف كسب ود الناخبين. فالقوى السياسية المصرية ستكون مقبلة على انتخاب مجلس شعب بدل المجلس الذي تم حله بقرار من المحكمة الدستورية، بعد ثلاثة أشهر من الاستفتاء على الدستور الجديد. وفي حين يريد الإسلاميون أن يذهبوا إلى ناخبيهم ليقدموا لهم «انتصاراً للشريعة الإسلامية» من خلال الدستور الجديد، تسعى القوى الليبرالية واليسارية إلى إعلان «انتصارها لدعاة الدولة المدنية». لكن المناقشات حول الدستور الجديد تُظهر أيضاً أن القوى الليبرالية واليسارية ليست على «قلب رجل واحد»، وأنها لا تزال تعاني الانقسامات. فهناك من هذه القوى من ينضم إلى الإسلاميين في بعض مواقفهم ويتمسك بالاستمرار داخل الجمعية التأسيسية، فيما تيار آخر يرفض تشكيلة الجمعية بمبرر «هيمنة الإسلاميين» عليها. أما التيار الإسلامي فيقف مدافعاً صلباً وفي شكل موحد عن الجمعية. وأعلن أمس أربعة أعضاء آثروا الانسحاب من تشكيلة التأسيسية عند إعلانها، العودة مجدداً إلى المشاركة في أعمال وضع الدستور، ما مثّل «انتصاراً للمدافعين عن التأسيسية». كما ظهرت بارقة أمل إلى حصول توافق حول مواد سببت صداماً بين القوى الإسلامية والليبرالية واليسارية، لكن الجدل استمر خصوصاً في شأن المواد المتعلقة ب «علاقة الدين بالدولة». وأكد وزير الدولة للشؤون القانونية والنيابية عضو الجمعية التأسيسية الدكتور محمد محسوب «أن الجمعية التأسيسية ستجتمع خلال أيام على مواقف تحقق التوافق، وتقدم مصلحة الوطن على المصالح الحزبية أو الفئوية». وأضاف محسوب عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، أن التأسيسية «ستستمر في القتال» الذي بدأته من أجل الخروج من أزمة الخلافات لمرحلة التوافق والتصالح، قائلاً: «كما قاتلنا لاجتماع التأسيسية تحت الرماح وفي ساعات الخطر سنقاتل للخروج من ضيق الخلاف لسعة التوافق وهو أمر أقرب مما يتصوره البعض». غير أن الناطق باسم التأسيسية وحيد عبدالمجيد أكد ل «الحياة» حصول «تطور إيجابي نحو التوافق لكنه يبقى محدوداً». وقال: «تلوح في الأفق بوادر إيجابية، لكن لا تزال هناك صعوبات ... ولم نصل بعد إلى التوافق». وزاد أنه «لا تزال هناك خلافات حول الصياغات النهائية للمواد المتعلقة بعلاقة الدين بالدولة، إضافة إلى بعض المواد المتعلقة بالحقوق والحريات». وأمام زيادة حدة الخلافات داخل الجمعية التأسيسية ما يهدد بتفخيخ المشهد السياسي، أطلق بعض أعضاء الجمعية التأسيسية في مقدمهم رئيسها القاضي حسام الغرياني دعوات ل «خروج الدستور متضمناً المواد المتفق عليها ويتم إرجاء المواد المختلف عليها إلى دستور جديد». واعتبر عبدالمجيد أن تلك الدعوات «إيجابية». وقال: «علينا أن نرجئ ما نختلف عليه إلى أجيال مقبلة تستطيع أن تناقش وتتوافق». وسألت «الحياة» عبدالمجيد حول من يملك إجراء تعديلات على الدستور، فأوضح أنه «سيتم النص في الدستور على أنه يحق لرئيس الجمهورية أو ثلثي أعضاء البرلمان اقتراح تعديل الدستور، لكن إقرار هذا الطلب سيتطلب موافقة ثلثي أعضاء البرلمان، على أن تعرض التعديلات الدستورية للاستفتاء الشعبي لإقرارها». ويعني هذا أنه سيكون لدى الإسلاميين في حال كرروا إنجازهم (في الانتخابات البرلمانية الماضية حصلوا على أكثر من 75 في المئة من المقاعد) إجراء تعديلات على الدستور. وأقر الناطق باسم التأسيسية بأن بعض الأطراف يستخدم الدستور في مصالح انتخابية، وقال ل «الحياة»: «من الصعوبة أن تنجز دستوراً في ظل حال استقطاب، ومن الأخطر أن يستخدم انتخابياً». ودعا مؤسس «حزب الدستور» الدكتور محمد البرادعي ومؤسس «التيار الشعبي» حمدين صباحي وعدد من القوى السياسية، في بيان أعقب اجتماعاً لهم مساء أول من أمس (الجمعة)، إلى «مقاطعة أعمال الجمعية التأسيسية نظراً إلى عوار تشكيلها وإهدارها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والعدالة الاجتماعية للمصريين والاعتراضات المشروعة على كثير من النصوص التي تسربت». وحمّل هؤلاء الرئيس محمد مرسي مسؤولية الإخلال بوعده السابق بمعالجة تشكيل الجمعية «ليكون أكثر توازناً». وأعلن أعضاء انسحبوا من تشكيلة التأسيسية، وهم: الخبير الدستوري الدكتور جابر جاد نصار، ورئيس «الجمعية الوطنية للتغيير» الدكتور عبدالجليل مصطفى، والدكتورة سعاد كامل رزق، ومساعد رئيس الجمهورية للتحول الديموقراطي الدكتور سمير مرقص، العودة إلى أعمال الجمعية. وعزا هؤلاء قرارهم إلى «رغبة المشاركة الفعالة في أعمال الجمعية، على قاعدة تأكيد وتفعيل دور الجمعية التأسيسية كوكيل عن الشعب في إنشاء وإدارة حوار مجتمعي واسع وشفاف يضمن التوافق والمشاركة، وليس التغالب والمنازعة، وتأكيد احترام التقاليد الدستورية المصرية العريقة، وإحاطة جموع الشعب بما يتم التوافق عليه داخل الجمعية». وأكد الأعضاء الأربعة احتفاظهم في الوقت نفسه «بحقهم في اتخاذ أي موقف تمليه عليهم ضمائرهم والتطورات اللاحقة سواء داخل الجمعية أو خارجها، من أجل هدفهم الثابت في كتابة دستور يليق بمصر الحرة الأبية بتنوعها الثقافي وتركيبها الحضاري وتجربتها التاريخية لتكون بحق وطناً عادلاً ومنجزاً ومتقدماً ومكتفياً». وقال عبدالجليل مصطفى ل «الحياة»: «قررنا العودة للجمعية لنقوم بدورنا لحماية المصلحة العامة». وأشار إلى أن هناك قلقاً كبيراً وتخوفاً من الشعب المصري لما يحدث داخل اللجنة، وقال: «عدنا لنقوم بواجبنا داخل الجمعية، وسنبذل جهدنا لتصويب ما هو خاطئ... عدنا لنعلم الشعب بما يجري داخل الجمعية». وأثار قرار الأعضاء الأربعة ارتياحاً داخل الجمعية التأسيسية، واعتبر نائب رئيس حزب «الوسط» عضو التأسيسية عصام سلطان، أن القرار «لم يكن ضرورياً لإحداث التوازن داخل التأسيسية بمقدار ما كان ضرورياً، لأن كلاً منهم يمثل قيمة فكرية وقانونية تحتاج التأسيسية لإبداعاتهم المختلفة». فيما علق القيادي الإخواني البارز، مقرر لجنة الحوار المجتمعي في التأسيسية، الدكتور محمد البلتاجي بالقول: «إن رجوع الأربعة في هذا التوقيت هو انتصار كبير لمبدأ الحوار الوطني. والمشروع الوطني الواحد مهما تعددت الرؤى والاجتهادات داخله». وزاد البلتاجي عبر صفحته على موقع «فايسبوك»: «كل التقدير لحس وطني يقطع الطريق على محاولات الانقسام والاستقطاب، والتعطيل والاستعانة بالضغوط الخارجية، وكل العرفان لجهد مشكور قام به الدكتور عبدالجليل مصطفى ووطنيون شرفاء ساهموا في إنجاح هذه الخطوة»، معتبراً أن قرار العودة «سيفتح الطريق لمشروع دستوري يلبي طموحات شعب يصنع تاريخه بيده». كما أشاد بالقرار سياسيون من خارج تشكيلة التأسيسية، وأكد عضو مجلس الشعب المنحل مصطفى النجار ضرورة عودة أعضاء اللجنة التأسيسية المقاطعين إلى اللجنة «لتتزن الأمور». وقال النجار في تغريدة له على «تويتر»: «إن الدعوة إلى مقاطعة التأسيسية غير مجدية».