أمير حائل يدشن إنتاج أسماك السلمون وسط الرمال    المسند: طيور المينا تسبب خللًا في التوازن البيئي وعلينا اتخاذ الإجراءات المناسبة للحد من تكاثرها    التعامل مع المرحلة الانتقالية في سورية    إحباط تهريب (1.3) طن "حشيش" و(136) طنًا من نبات القات المخدر    بناء الأسرة ودور مراكز الرعاية الصحية الأولية    معرض الكتاب بجدة كنت هناك    جمعية(عازم) بعسير تحتفل بجائزة التميّز الوطنية بعد غدٍ الإثنين    البديوي: إحراق مستشفى كمال عدوان في غزة جريمة إسرائيلية جديدة في حق الشعب الفلسطيني    مراكز العمليات الأمنية الموحدة (911) نموذج مثالي لتعزيز الأمن والخدمات الإنسانية    الفريق الفتحاوي يواصل تدريباته بمعسكر قطر ويستعد لمواجهة الخليج الودية    الهلال يُعلن مدة غياب ياسر الشهراني    جوائز الجلوب سوكر: رونالدو وجيسوس ونيمار والعين الأفضل    ضبط 23194 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود.. وترحيل 9904    الأونروا : تضرر 88 % من المباني المدرسية في قطاع غزة    زلزال بقوة 5.6 درجة يضرب الفلبين    حاويات شحن مزودة بنظام GPS    مهرجان الحمضيات التاسع يستقبل زوّاره لتسويق منتجاته في مطلع يناير بمحافظة الحريق    سديم "رأس الحصان" من سماء أبوظبي    أمانة القصيم توقع عقد تشغيل وصيانة شبكات ومباشرة مواقع تجمعات السيول    بلدية محافظة الاسياح تطرح فرصتين استثمارية في مجال الصناعية والتجارية    «سوليوود» يُطلق استفتاءً لاختيار «الأفضل» في السينما محليًا وعربيًا خلال 2024    بعد وصوله لأقرب نقطة للشمس.. ماذا حدث للمسبار «باركر» ؟    انخفاض سعر صرف الروبل أمام الدولار واليورو    الفرصة مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    الصين تخفض الرسوم الجمركية على الإيثان والمعادن المعاد تدويرها    المكسيك.. 8 قتلى و27 جريحاً إثر تصادم حافلة وشاحنة    أدبي جازان يشارك بمعرض للتصوير والكتب على الشارع الثقافي    دبي.. تفكيك شبكة دولية خططت ل«غسل» 641 مليون درهم !    رينارد وكاساس.. من يسعد كل الناس    «الجوير».. موهبة الأخضر تهدد «جلال»    ابتسامة ووعيد «يطل».. من يفرح الليلة    رئيس الشورى اليمني: نثمن الدعم السعودي المستمر لليمن    مكي آل سالم يشعل ليل مكة بأمسية أدبية استثنائية    جازان تتوج بطلات المملكة في اختراق الضاحية ضمن فعاليات الشتاء    الرويلي يرأس اجتماع اللجنة العسكرية السعودية التركية المشتركة    مدرب ليفربول لا يهتم بالتوقعات العالية لفريقه في الدوري الإنجليزي    رئيس هيئة الأركان العامة يلتقي وزير دفاع تركيا    لخدمة أكثر من (28) مليون هوية رقمية.. منصة «أبشر» حلول رقمية تسابق الزمن    وزير «الشؤون الإسلامية»: المملكة تواصل نشر قيم الإسلام السمحة    خطيب الحرم: التعصب مرض كريه يزدري المخالف    مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    رفاهية الاختيار    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    حلاوةُ ولاةِ الأمر    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العسكر: الربيع العربي لا يُفكر في شرعية الدولة بقدر تقويمه للإنسان وحياته!
نشر في الحياة يوم 25 - 09 - 2012

بعد تقلب أحوال العالم بفضل ما سمي ب«الربيع العربي»، الذي حل ضيفاً ثقيلاً على العرب «بغتة»، اجتهد محللون ومفكرون وسياسيون في تفسير الظاهرة، وإلى أين تمضي؟ وعند من ستتوقف؟ وما هي سننها وقوانيها؟ وما العاصم من أمرها؟ لكن الأسئلة على هذا الصعيد، نادراً ما وجهت إلى الراسخين في التاريخ، أمثال عضو مجلس الشورى السعودي الدكتور عبدالله بن إبراهيم العسكر، الذي يحمل دكتوراه أميركية في فلسفة التاريخ.
العسكر بصفته تلك، ناقش في حواره مع «الحياة» تساؤلات الربيع العربي المقلقة، خصوصاً في مسائل الحكم واستقرار الدول، مستصحباً دراية المؤرخ، وفطنة الخبير بالواقع السياسي والاجتماعي للدول العربية، والخليجية منها على نحو خاص.
وإذ بدت التحولات التي طرأت في الوطن العربي، غير منطقية إلى حد ما في نظر بعض المحللين، يطمئن العسكر المهتمين أو يقلقهم بأن «الربيع لا يفكر في شرعية الدولة بقدر ما يفكر في قيمة الانسان وحياته». مشيراً إلى أن ما يعتبره البعض سبباً في التحولات، أو أسباباً عاصمة منها، ليس بالضرورة أن يكون دقيقاً. وفي حين تعلق ذكر العواصف التي مرت بالعرب في هذا العام والذي قبله، بوصول الإسلاميين للحكم، لم يجد العسكر غرابة في ذلك نظراً إلى الهوية الإسلامية الطابعة للعقل العربي، لكنه لم يخفِ اعتقاده أن وصول الحركات الآيديولوجية إلى الحكم، سيؤدي إلى تراجع حضاري وتنموي لا محالة لدولها!
وأما حول تفسير مغازلة قطر لسلفية الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وهي التي عاشت عقدين من «استقطاب الإخوان المسلمين»، أكد العسكر أن الإمارة الحالمة، لم تكن يوماً بعيدة عن تلك الدعوة، بل إنه جزم بأن قبول القطريين للسلفية (الوهابية) قبل قرنين كان سلساً بقدر أكبر من ذاك الذي تلقته الدعوة في منشئها بنجد. وفي الحوار، تناول قضايا عدة. في ما يأتي النص.
منذ بداية الثورات العربية، والكتاب وعلماء الدين يخوضون في تاريخ الدول وأسسها الشرعية، وجاءت المملكة في هذا السياق، حتى قال ولي العهد الأمير سلمان بن عبدالعزيز أخيراً، إنها لم تقم على «حسب ونسب» على رغم أنها «مملكة»، كيف تقرأ أنت هذا القول؟
- مسألة شرعية الدول، والدول العربية ليست استثناء، مسألة مهمة. وهذه المسألة لم تُثرَ مع ما يسمى بالربيع العربي. بل هي دائماً حاضرة في الإدارات الرسمية والقانونية وفي التحليلات الصحافية وفي الكتابات الجادة.
أما بالنسبة إلى المملكة في طورها الثالث فقد قامت على شرعية متينة ذات شقين: الأول الإرث والحق التاريخيين للأسرة المالكة، وهو إرث يعود إلى القرن ال18 الميلاد، ومع تراكم السنين أصبح هذا الإرث يُشكل قاعدة قانونية معروفة في بناء الدول وقيامها.
والشق الآخر الدعوة الإصلاحية التي تُعرف في الغرب بالوهابية. وهي شرعية دينية، وهذه الشرعية مُعترف بها في قاموس السياسة القديم والحديث.
بل إن مفكراً مثل ابن خلدون يقول إن الشعب العربي لا يقبل بدولة ما لم تكن قائمة على قاعدة دينية، ثم إن الدين يُشكل في الثقافة العربية الوسيطة عصبية تؤدي بأربابها إلى تنظيم سياسي مُعيّن، ولولا هذه العصبية لما قامت دول عدة في الشرق العربي.
أما مقولة ولي العهد الأمير سلمان بأن المملكة العربية السعودية لم تقم على نسب وحسب. فهذه مقولة صحيحة، لأن النسب والحسب والأرومة العريقة لا تصنع دولاً، لا تُعد مسائل النسب والحسب من العصبية التي تؤسس لشرعية سياسية أو حكم.
والملك عبدالعزيز عندما شرع في تنفيذ مهمته واستعادة ملك أسلافه، لم يقل ولو مرة واحدة بأنه يسعى ويعتمد على وشائج النسب.
بل قال بصريح العبارة إنه يقيم دولته على الدين وعلى استعادة حقه وأرثه الممتد ل200 سنة. فهو إذن أعلن بأن شرعية دولته الدين والحق التاريخي، هذان الأمران لا علاقة لهما بالنسب والحسب.
شروط إصابة الدول بالهرم!
يرى مؤرخون معاصرون أن السعودية هي الدولة الوحيدة عبر التاريخ التي تسقط ثم تعود مرات عدة، هل لمثل هذه الحقيقة من مغزى أو سرّ في ظل تهاوي الأنظمة في عامنا الذي يوشك أن يمضي، والذي قبله؟
- أعمار الدول مثل أعمار الإنسان مع استثناءات قليلة. والتاريخ يقول لنا إن دولاً كبيرة أقامت حضارة واستمرت سنوات كثيرة ثم انتهت.
ونهاية الدولة أزلية. والبقاء لله سبحانه وتعالى. بعض الدول تنتهي، لكنها تجدد شبابها وتعود من جديد، ولهذا تستمر ويتأخر هرمها.
والشرط الوحيد لمعاودة الدول بعد سقوطها أن تكون البذرة صالحة، تُغرس في تربة أو بيئة مناسبة. وأن تكون العلاقة بين الشعب والدولة علاقة متينة، بل يجب أن تكون كما قال بعض الفلاسفة، أن يكون الشعب والحاكم وجهين لعملة واحدة. عندئذ يمكن للدولة أن تهرم وتسقط، ولكن يمكن لها أن تعود من جديد.
ولقد مرت الدولة السعودية بثلاث مراحل مميّزة. سقطت ثم قامت ثم سقطت ثم قامت. وهذا يدلنا على ثلاثة أمور: الأول أن البذرة صالحة، والثاني أن التربة والبيئة مناسبة ومواتية، والثالث أن الحاكم والشعب وجهان لعملة واحدة.
ولا مشاحة من القول إن شرعية المملكة المعاصرة شرعية تقوم على اتساق وتوافق وتراضٍ بين الحاكم والمحكوم. وبالتالي لا خوف من تصدع تلك الشرعية في الوقت الراهن.
لا أحد من المنصفين يزعم أن أياً من دول الخليج تعاني من أزمة في «الشرعية» مثل أنظمة عربية وإسلامية أخرى، ولكن بحكم أننا في زمن قيل إنه الربيع العربي، ماذا يقول التاريخ عن هذه المنطقة في شأن الاستقرار أو نقيضه؟
- الربيع العربي استجابة طبيعة وإن تأخر أوانه. هو استجابة لاحتباسات يعانيها الشعب العربي في بعض الدول العربية. فالجوع والفقر والبطالة والكبت والقسر وفقدان الكرامة وغيرها أمور قاسية، تقصم الظهر، وتوجع القلب، وتكسر الخاطر، وتضيّق النفس.
وبعبارة مختصرة تجعل الحياة لا قيمة لها، بل تجعل طلب الموت مطلباً وعلى رأي الشاعر العربي الذي يقول: فهل من موت يباع فأشتريه؟ إذا وصلت الدولة إلى هذا المستوى ينفجر البركان من دون سابق إنذار.
هذا الوضع غير موجود أو أنه موجود ولكن بنسب متواضعة في دول مجلس التعاون الخليجي. ثم هو لا علاقة له بالشرعية. لأننا نجد أن الربيع العربي اكتسح بلاداً لا تنقصها الشرعية مثل الاتحاد السوفياتي السابق ودول شرق أوروبا ومصر وغيرها كثير. إن هذا الربيع لا يُفكر في شرعية الدولة بقدر ما يُفكر في قيمة الإنسان وحياته.
بعد أحداث «أيلول» (سبتمبر) كادت الدعوة الوهابية أن تصبح عاراً يلاحق السعودية ومن مسه طائف من تلك الدعوة، ولكن أخيراً أعلنت قطر وهي التي «كشفت عن ساقيها» حداثياً، اعتناق تلك الدعوة في خطوة رمزية، تمثلت في افتتاح جامع باسم إمام تلك الدعوة، هو الجامع الأكبر في الإمارة، ما دلالة ذلك في نظرك وأنت أستاذ تاريخ؟
- الوهابية أو الدعوة السلفية أو غيرها من الأسماء تحمل دلالات دينية ومذهبية، ولقد أساء بعض أرباب تلك المسميات إليها. وخصوصاً الوهابية التي عرفت تشويهاً في زمانين: الأول في القرن ال18 عندما شُنت عليها حرباً إعلامية ثم عسكرية أدت في ما أدت إلى سقوط الدرعية وهدمها.
والزمن الآخر عاصر ما يُسمى بالصحوة الإسلامية والغزو السوفياتي لأفغانستان ثم بروز الإسلام الحركي السياسي المتشدد ممثلاً في جماعات عدة مثل: القاعدة والسلفية الجهادية وغيرها كثير، إذ نالت الوهابية ثم السلفية النصيب الأكبر من الحملات الإعلامية والتشويه، ثم الحرب بين العالم الحر والإسلام المتشدد، وزاد الطين بلة أن الإرهاب والتشدد جُعلت صفات أو أسماء مرادفة للوهابية. لا أنكر أن بعض من ينتسبون للوهابية والسلفية لهم دور بارز في ما أصاب من ينتسبون إليه. وبالتالي عليهم تحمل المسؤولية.
أما بخصوص أن قطر أطلقت اسم الشيخ محمد بن عبدالوهاب على أكبر مسجد في الدوحة، فلا أظن أن الأمر يستاهل كل ما رافقه من تحليلات سياسية ودينية ومذهبية وقبلية. الأمر ببساطة لا يعدو أن يكون استجابة طبيعة لما عليه معظم - إن لم أقل - كل الشعب في قطر. فأجداد وحكام قطر اعتنقوا الدعوة الإصلاحية منذ القرن ال18 الميلادي. وتكاد قطر أن تكون مثل المملكة العربية السعودية في هذا الشأن، بل إن قطر تبنت المدرسة الوهابية من دون عنت على عكس ما لاقت الدعوة في نجد إبان بروزها.
فقد انتشرت كتب الشيخ ودعوته بمبادرة من الجد الأعلى لحاكم قطر الحالي، وتقبلها سكان قطر بقبول حسن. وتسمية مسجد باسم رجل مجدد ومصلح وله أتباع كثيرون في قطر، أعدهُ استجابة منطقية من أمير يتلمس ما يرغبه شعبه.
هنالك تكهنات عدة أثيرت حول الخطوة القطرية، ولكن من أخطرها أن قيل إنها بعد ثلاثة عقود من التحالف مع تيار الإخوان المسلمين، وجدته غير مأمون فبدأت تبحث عن مرجعية دينية تتكئ عليها قبل أن ينقلبوا هم عليها، كما قيل إنهم فعلوا في أماكن أخرى كالسعودية؟
- لا أميل إلى أن إمارة قطر تواجه احتباساً دينياً. فالمتمعن في الوضع الحالي للإمارة يجد أن السياسة القطرية تفتح ذراعيها لكل التيارات الدينية والقومية والمدارس السياسية.
ولا يعني استضافة قطر لبعض الإخوان المسلمين أو ترحيبها بالفكر الإخواني أنها تعقد معهم ائتلاف أو صفقة سياسية، وبالمثل لا يعني تسمية مسجد باسم الشيخ محمد بن عبدالوهاب تبنيها لخط متشدد ضد الإخوان، خوفاً منهم. لا تعدو التسمية استجابة طبيعية لما عليه معظم القطريين من تديّن سلفي وسطي، وربما أن حاكم قطر نفذ وصية جده القاضية أن يُطلق اسم الشيخ ابن عبدالوهاب على المسجد الكبير في حالة إعادة بنائه.
وفي المحصلة الأخيرة لا أميل إلى تبني مقولة أن قطر تخاف من ثورة يقوم بها الإخوان المسلمين في قطر، لسبب بسيط أن الإسلام الحركي غير معروف بين القطريين، والقليل منهم يتبنى خط حسن البناء على رغم استضافة قطر للشيخ يوسف القرضاوي، فطول مدة بقائه في قطر لم يستطع أن ينفذ إلى قلوب القطريين وعقولهم، ناهيك عن الشعب في دول الخليج العربي.
التدمير باسم «الرب»
من اللافت أن ملكاً مثل ملك المغرب، تنازل عن كل شيء إلا «الدين والجيش»، ويبقى السؤال، ماذا يمثل الدين من عنصر أمن أو خطر على الحاكم في المنطقة الإسلامية والعربية، حتى يعتبره قوة موازية للجيش؟
- أشرت في ما سبق إلى أهمية الدين. وهو سلاح ذو حدين، وهو أمضى من السيف. والملكية الدستورية التي أخذ بها المغرب استجابة طبيعية ومتزنة للشارع المغربي. واحتفاظ الملك بالدين والجيش دلالة لا تخفى على المراقب، ذلك أنهما يشكلان كتيبتين عسكريتين قد تستخدمان في ما يضر البلد والشعب، ويهدد الاستقرار والأمن والعدل.
وبالتالي أرى في هذه الحقبة تحديداً أن تبقى الأمور الدينية والجيش بيد الملك، خوفاً أن يُستغل الدين من أرباب مذاهب أو دعوات أو مدارس لتحويله إلى آيديولوجية بغيضة، تنشر الفتاوى والقتل والتدمير باسم الدين. الدين في منطقتنا العربية أشد فتكاً وأمضى سلاحاً من الجيش.
والدين إذا أسيء استعماله ينقلب وحشاً يأكل العباد ويدمر البلاد باسم الرب، لهذا كله من مصلحة المغرب العربي أن يكون الملك مسؤولاً عنه، وألاّ يُترك لأصحاب الأهواء والدعوات، فما ضر الإسلام والمسلمين أكثر ما أضرهم دين تبناه قوم لا يعرفون الدين أصلاً أو يعرفون القشور الدينية.
بعد عصور من الانقلابات العسكرية، وعصور مقاومة الاستعمار تحت راية القومية والدين، وبعد استخدام كثير من الحركات الإسلامية ورقة «الدين» وملحقاته في كسب الأصوات، هل نحن سنشهد صراعاً جديداً على «الإسلام» في أوطاننا، أم أن الوعي في عصرنا المتقدم، عاصم من انخداع الناس بتلك الشعارات مجدداً؟
- أميل إلى أن الشعوب العربية في ربيعها الحالي لم تعد تنخدع كثيراً بالشعارات القومية أو الدينية. صحيح أن تلك الشعارات ستستخدم لبعض الوقت، فالانحيازات الطائفية أو العرقية أو القبلية موجودة بسبب غياب واضح لمؤسسات المجتمع المدني التي قد تملأ الفراغ عند غياب حكم استبدادي، ولكنه ملء موقت، قد يطول ويقصر.
والعراق أكبر مثال على ما أقول، فعندما سقط حكم صدام حسين، وجد العراق نفسه من دون دولة أو مؤسسات قوية، وسبب ذلك أن صدام ابتسر واختصر الدولة في شخصه، فهو العراق والعراق هو. عندئذ لم يجد العراقيون شرعية أو ملاذاً غير القبيلة أو الطائفة الدينة وبئس الملاذ.
أعود فأقول إن الشعوب العربية التي شهدت أو تشهد انتفاضات شعبية وسقوط حكام ستلجأ تلك الشعوب إلى مذهب أو جهة أو قبيلة. وهذا موجع وأرجو ألاّ يطول هذا الرجوع.
«الدين» ليس شرطاً في بقاء الدول!
عرف أن أنظمة الحكم في العالم كله، تبحث عن كل ما يمكنها من التمسك بزمام الحكم، فهل يمكننا أن نعتبر «الدين» اليوم أو الحكم بالشريعة أحد مقومات الاستقرار التي ربما تجعلنا نشهد صحوة دينية بين الحكام العرب كتلك التي سبق وأن سادت الشعوب في التسعينات؟
- تماسك الدول وبقاؤها مدة طويلة لا يأتي فقط من التمسك بأهداب الدين، ولو نظرنا في تاريخنا الإسلامي لن نجد حكماً أكثر تمسكاً بالدين من حكم الخلفاء الراشدين.
ومع هذا فقد قُتل ثلاثة خلفاء من أربعة، وسقطت التجربة الراشدية في فترة وجيزة. وبالتالي لبقاء الدول مدة طويلة منوط بأمور كثيرة ليس هذا مكان تفصيلها. والدين حمّال أوجه. وقد يكون الدين سبباً في قيام دولة وقد يكون سبباً في سقوط أخرى. ولذا فهو ليس وحده مقياساً يمكن الركون إليه لمعرفة عمر الدولة وتماسك الحكم.
في ما اتصل بعلاقة علماء الشرع برجال السياسية، هل سيتعزز في منطقتنا بعد التغيرات التي شهدتها، وبأية سلبية يمكن أن يعود هذا على الحريات والعدالة والتنمية؟
- السياسة وسيلة من وسائل الحكم، بل ويمكن عدها فلسفة من أعمال العقل في الحكم. والسياسة إن دخلت في أمر تخصصي كالشريعة أفسدتها، ولهذا تحرص الدول الحديثة على الفصل الصارم بين السلطات. ويمكن القول بالعكس فإذا دخلت الشريعة في ميدان السياسة ضعفت الأخيرة وأضحت مؤدلجة لا تقبل بها المدنيات الحديثة.
والمعروف أن فلسفة الحكم القائمة على خطط سياسية قد لا تروق لعلماء الشرع، ولا يمكن أن يتفق السياسي المحنك البصير بعمله مع رجل الدين الشرعي الملتزم.
ذلك أن لدى رجل الدين الشرعي خطوطاً حمراء لا يتخطاها، وأما السياسي فيعمل بالمنطق طالما أنه يخدم بلده وحكومته ومشروعة ضمن حدود إنسانية مقبولة. ولعل هذا يفسر فشل الحكومات الدينية المؤدلجة وسرعة سقوطها.
عطفاً على سؤالنا السابق، هل تتوقع أن يؤدي وصول الحركات الإسلامية إلى تقدم أو تأخر في واقع بلدانها التنموي والحضاري، استناداً إلى تاريخ تجارب الدول الدينية والعلمانية؟
- نعم، أتوقع أن تتأخر التنمية والحكومة المدنية عندما يتسنم رجال دين مؤدلجين سدة الحكم. وسبب هذا النكوص أن الحكومات الدينية المؤدلجة أو المتشددة ستواجه صعوبات كثيرة قد لا تملك لها حلولاً أمام التزامها الحرفي بنصوص دينها المتشدد.
والعبرة هنا ليست بالدين في نفسه، ولكن العبرة بصاحب الدين وتفسيره للدين. ولدينا أمثلة كثيرة في تاريخنا الإسلامي والعربي والتاريخ العالمي. فأين حكومات شيعية متشددة، وأين حكومات خارجية متشددة كلها سقطت سريعاً، وأين حكومات نازية وشوفونية ومذهبية كلها تلاشت سريعاً. ولا يبقى إلا الاعتدال في الحياة والحكم.
على أن السعودية هي الدولة العربية الوحيدة التي امتلكت تجربة إسلامية متكاملة، وصمدت أمام كل وصم بالرجعية أو بتصدير الإرهاب والتخلف إلى غير ذلك، إلا أننا اليوم في ظل ما تعيشه المنطقة من بحث عن نموذج إسلامي حداثي، لا نرى أحداً يفاخر بتلك التجربة من أبنائها داعياً الآخرين إلى الاستفادة منها، ناهيك عن الدول التي بدأت تبحث عمن تقتبس منه النور، ما السبب؟
- عاشت التجربة السعودية لأنها ليست حكومة دينية فقط، بل هي حكومة دينية معتدلة جداً وحكومة مدنية في الوقت نفسه. إن الأخذ بواحدة وتطليق الأخرى يُعد نكوصاً عن الفطرة والوسطية. تجربة السعودية تجربة ناجحة وصمدت طويلاً أمام التحديات منذ القرن ال18 الميلادي.
وسبب صمودها واستمرارها أنها لم تتخلَ عن القلب والعقل. فالقلب يمثله الدين والعقل يمثله طرائق الحياة المتشعبة. وتجربة السعودية تستحق الوقوف عندها، فالمشروع مشروع ديني ولكنه دين ودنيا. والأدلجة لا تعرفها التجربة السعودية.
صحيح هناك بعض الشذوذ في بعض الأحيان، ولكنه شذوذ بمثابة دليل على صدق القاعدة. وعندما يسود الشاذ، يظهر التطرف والتشدد، ولكنه سرعان ما يتلاشى ويظهر وجه التجربة السعودية الحقيقي القائم على الوسطية والعدل والمساواة.
ربما تكون السعودية الدولة العربية الوحيدة التي حافظت منذ قرون على علاقة وطيدة بين الحاكم وعالم الدين، هل هذه العلاقة في نظرك قابلة للاستمرار على الصورة نفسها، أم أقطاب الحركات الإسلامية فيها يطمحون لما هو أكبر؟
- نعرف من تاريخنا المحلي أهمية التوافق بين الحكم والدين، ونحن نأمل دائماً ألاّ يطغى أحدهما على الآخر. إن الاستحواذ الديني بأمور الحكم أمر غير مقبول من الوجهة المدنية للدولة الحديثة. وتنكر الحكم للدين هو نكوص عن فطرية الإنسان.
وبالتالي فقد عرفت التجربة السعودية التعاون بين الأداتين الديني والسياسي، وهي تجربة متسقة ومتناغمة. ونعرف من تاريخنا أن التمدد الديني في قضايا السياسة والحكم يجعل من تناول مسائل الحكم صعوبة قد تؤدي إلى صدام سياسي أو عسكري. ومنذ الدولة السعودية الأولى وحتى حكومة خادم الحرمين الشريفين نرى التوافق مع التوجه الديني الوسطي، والملك يستقبل علماء الدين جرياً على عادة المؤسس الملك عبدالعزيز رحمه الله.
وهذا التقليد يشي كما قلت بترابط واتساق لا نجده في كثير من الدول الإسلامية. ومما يُحمد للتجربة السعودية أن التديّن في مساقاتها العامة لا يعرف ما يُسمى بالإسلام الحركي أو الإسلام السياسي أو الأدلجة الدينية، فالتدين في المملكة فطرة سوية، وجادة وسطى.
في هذه الجزئية، لم تزل علاقة الإخوان المسلمين بالسعودية ملتبسة، ففي حين يتهمون بأنهم سيئو السيرة في البلاد، هاهي الدولة تمكن بعض من يعتقد أنهم إخوان (همساً) من بعض المفاصل الحساسة، ما قراءتك أنت لهذه المفارقة؟
- استضافت المملكة منذ القرن الميلادي الماضي علماء ودعاة ونشطاء من فصيل الإخوان المسلمين من مصر والشام والعراق وغيرها لأسباب إنسانية.
ومكنتهم الدولة من العيش بأمان وطفقوا يعملون في مختلف القطاعات الحكومية. وكان لهم أثر كبير، ولكنه كان ينمو بتؤدة في مفاصل عدة. ولم يتم التزاوج بين فكر الإخوان الحركي السياسي مع السلفية السعودية إلاّ في وقت متأخر.
وهذا التزاوج بان وبان أنه ضد الوسطية والفطرة السليمة في المملكة. وضر بها بل وشوه التجربة السعودية. على أن الأصل ما زال باقياً، والسواد الأعظم من السعوديين لا يرون التجربة الإخوانية تصلح لنا. ورحم الله الملك عبدالعزيز الذي قال لحسن البنا عندما طلب منه افتتاح مكاتب للإخوان المسلمين.
قال الملك: «كلنا إخوان مسلمون». وهو بهذا القول أغلق الباب على تسلسل الفكر الحركي الديني والأدلجة للتغلغل في المملكة في قت باكر قبل أن تنضج التجربة السعودية وتؤتي أُكلها. نحن الآن في معظمنا لا نرى في تسيّس الدين أو تديّن السياسة أمر مرغوب في عالم الدول المدنية الحديثة.
لام كثيرون السعودية ودول الخليج في تركها العراق يذهب إلى أحضان إيران وهو على حدودها، فيتساءلون: مرة أخرى ستترك الدول العربية تذهب لغريمها «الإخونجي» من دون أن تحاول التأثير، لدعم القوى التي في مصلحتها أن تتقدم نحو الحكم؟
- لم تترك السعودية ودول الخليج بل العرب كافة العراق ليرتمي في أحضان الجمهورية الإسلامية في إيران. هذا أمر لا يصدقه العقل. العراق أُخذ بقوة السياسة والحرب الأميركية وقُدم على طبق من فضة إلى إيران. وهذه قصة موجعة وطويلة.
وليس من العدل وضع اللوم على العرب. إن سياسة حكومة صدام والهوجاء والاحتشاد الشيعي والنزعة الأميركية التوسعية، والأخطاء القاتلة من الحكومة الأميركية وآلة الحرب القاسية، كلها عوامل ساعدت على تقديم العراق هدية لإيران.
كانت هذه نتيجة متوقعة لحرب ضروس قامت بين إيران والعراق. وكانت هذه نتيجة متوقعة لاحتباس وضنك شديدين عرفها الداخل العراقي تحت حكم ديكتاتور ظالم. اختزال العراق كله في صدام هو الذي عجل بسقوطه وتفتته.
وقد تتكرر هذه التجربة مع أي بلد عربي يسير حكامه كما سار صدام في العراق. ولكن ليس من العدل لوم أي بلد عربي بأن له ضلع في هذا الضياع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.