يبدو أن كل وصايا اليونسكو لوأد العنصرية، وإعلان الأممالمتحدة عام 1996 عاماً للتسامح، لا مكان له إلا في المجتمعات المفتوحة، لذلك تتعطل مفاعيل البرامج التي ترسمها الدولة الحديثة، لتخفيف حدة التصادم بين الجماعات، وتوسيع هامش التسالم الاجتماعي داخل بوتقة وطنية صاهرة ومذوّبة بالضرورة للاختلافات والتباينات، فما تخطط له الدولة كبنية فوقية ما زال يصطدم بعراقيل المغالاة في إبراز الهويات الفاقعة، والمباهاة بالأعراف البالية في التعاطي مع الآخر، واستعداء الآخرين، وهو ما يدفع الفرد لاعتناق الكراهية، وممارسة حالات قصوى من النكوص إلى خطوط دفاعه الوهمية المتمثلة في ال (نحن) والتسويغ الدائم لرهابه من ال(هم) وبالتالي إصابة النسيج الاجتماعي بهزة عنيفة كلما تعرض لاختبار من هذا النوع. الكراهية طاقة سلبية مدمرة، منشؤها الرغبة في قهر ال(هم) والاستقواء عليهم أو التوجس منهم، ولكنها ترتد منذ لحظة انطلاقها لتصيب ضمير ال(نحن). فأبلسة (الآخر) تعني في المقام الأول طأفنة (الأنا) أو عنصرتها. وكأن تحقيق الذات، والحفاظ عليها، والارتقاء بها يستدعي القتال دائماً، وتحويل كل ذلك الذود عن الجماعة إلى حالة من الكراهية للآخرين، ربما لأن استنقاع الجميع في لحظة الهبوط الحضاري يزيد من رفع منسوب الكراهية، نتيجة الإحساس الجمعي بالفشل. وبهذه الصورة تتجاوز كراهية الآخر، كونها حالة انفعالية سلبية طارئة للتحول إلى فوبيا لا حد لمخاطرها، إذ تفتك بالذات والمجتمع، ولهذا السبب بالتحديد يميل كلود ليفي شتراوس إلى تقويم الإسهام الإنساني من خلال الحديث عن ثقافات لا عن أعراق وإثنيات. هذا هو بالتحديد ما يفسر تورط الفرد في الدفاع العاطفي اللاواعي عن ال(نحن) في مقابل ما يتوهمه هجوماً إثنياً، أو دينياً، أو عرقياً، أو قومياً، أو طائفياً من ال(هم)، والرغبة في إنهاء من يُمثلنهم كخصوم، وأحياناً الإنطواء والتشرنق داخل الثقافة الواحدة، والهوية الضيقة، وهو ما يؤدي إلى الحد من ممكنات الفرد المستقبلية على المستوى المعرفي والجمالي، وتحجيم منسوب علاقاته مع العالم الخارجي، فالتنافس شرط من شروط الحياة، ولكن تحويل الحياة إلى حلبة للتصارع يحيلها إلى جحيم، يتعادل فيها الكاره والمكروه من الوجهة الفلسفية، حيث يكون الآخر هو الموضوع دائماً، من دون قدرة أو رغبة على تطوير الذات، أو حتى التنافس مع أعضاء الجماعة الواحدة، كما يبدو هذا المشهد واضحاً في ميل الجماعات لاجترار التاريخ، وفي حالة الهيجان الجماعية التي انتابت شرائح عريضة من المجتمع، بعد أن عطلت تفكيرها وانساقت خلف عواطفها بلا ضوابط. هذا ما يبدو عليه المشهد الحياتي المؤلم الآن، إذ يمكن قياس منسوب الكراهية المتصاعدة بمجموعة من المؤشرات الدالّة، يمكن التقاطها من خلال اللغة المتداولة المشبّعة بمفردات الازدراء، والشك، والاتهام، والاستعلاء، والتهجم، والتخوين، التي تجعل باب الكراهية مفتوحاً على مصراعيه، وربما يصل الأمر إلى الاعتداء الجسدي، نتيجة الاحتقانات الآخذة في التراكم، وتفشي حالة من انعدام الثقة، وانتعاش الجدل العقيم حول الأفضلية والأحقية، مع شعور واضح بالخيبة من حالة التسالم الهشة، كما يترامى بتلك العداوات طابور من المثقفين، خارج السياقات التاريخية والاجتماعية، وكأنهم قد تنازلوا عن الوعي، وأصيبوا بفقدان الذاكرة بشكل فجائي، ليدخلوا المجتمع في نوبة حادة من التكاره. إن الكراهية لا تنشأ صدفة، ولا تتفجر وتتشظى لتصيب كل مناشط الحياة من دون مناسبة، إنما هي نتيجة طبيعية لتربية منحرفة تقوم على المبالغة في تبشيع ال(هم) وتشويه واقع وتاريخ ومعتقدات الآخرين، كما تجنح لتصعيد ال(نحن) وتضئيل وساعات الهوية، لتقتصر على الأصفياء من منظور شوفيني، بمعنى تخليق عدو وهمي وتحميله وزر فشل الجماعة، وترديد مرويات لبطولات زائفة، وركام من القصص الموجهة والمتوارثة كمنهج تعقيمي للذات، تُسرد على مسامع الفرد بقصدية ومن دون تمحيص، بل بما يشبه الدعاية الحربية، لدرجة أن هذا العدو المنمّط الذي يُراد تنميطه، يتضخم بشكل خرافي فيتجاوز كونه مجرد خصم طارئ، ليتحول إلى عدو لله وللإنسانية وللأديان. ثمة جرح إنساني ناشئ عما حدث أخيراً، ولا يمكن التغافل عنه، فقد تقاسم كل الذين استجابوا لمتطلبات هويتهم الضيقة الأمراض ذاتها، على رغم قناعة الكثيرين بعدم اكتمال هويتهم ولا معياريتها، إذ ظهرت عليهم أعراض الشعور بالاضطهاد والبارانويا والرهاب، كما تمظهرت تلك الاختلالات في السلوك العدواني داخل مختلف الفئات والجماعات، نتيجة ذوبان الهوية الفردية في المجموع الغاضب، وانطفاء القيم الداخلية في هوجة المعنى العام، المصنّع أصلاً في المختبرات، وبسبب عدم الإحساس بالأمان. وحيث بدت الكراهية متغلغلة بعمق وناخرة للعلاقات الإنسانية، فيما غابت فضيلة (الاختلاف) هذا المفهوم الذي بات ركيزة من ركائز الحياة، وشرطاً من شروط الثقافة والحداثة والعولمة، أو ربما تم تغييبه قصداً عندما فوجئت كل جماعة بصورتها المثالية التي رسمتها عن نفسها في المرآة، وهي تنشرخ في لحظة استحقاق تاريخية، على إيقاع تحطم ال(نحن) المثالية في مقابل ال(هم) المشيطنة. إنها لحظة من لحظات الخزي الاجتماعي، إذ فضحت هذه الهزة طبيعة الأفكار النمطية المترسبة بين ال(هم) وال(نحن). وكشفت عن فداحة غياب مفهوم التربية الأنسنية، إذ من المفترض أن يكتسب المثقفون تحت وطأة هذه الأحداث سمة الكائنات، التي بمقدورها أن تقدم سرداً مغايراً للوقائع، كما يتأمل الحيّز العمومي من أصحاب المنبر والقلم خطاباً بديلاً للمتداول ينزع فتيل الفتنة، ولكن يبدو أن فئة قليلة جداً هي التي تعي ما يجب أن نعنيه في عالم الأمم المتحضرة وتعدد الثقافات. وقلة هم الذين قطعوا بالفعل صلتهم مع منابع الكراهية. والأقل، هم الذين يتحلون بالنزعة الإنسية أو يحاولونها التي يطالب بها إدوارد في كتابه (الأنسنية والنقد الديمقراطي). بما هي (الوسيلة، ولعلها الوعي الذي نتزود به، لتوفير ذلك التحليل التناقضي أو الطباقي بين فضاء الكلمات وبين أصولها وأنماط انتشارها في الحيز الفيزيائي والاجتماعي). * ناقد سعودي.