إن ما يدخل مفهوم النهضة العربية في دهاليز التشابك والغموض، ليس فقط غياب تعريف واضح لمعنى الإصلاح والنهضة، المستهدفين على صعيد الفكر والممارسة في الوعي العربي، بل ان اختلاط واشتباك هذا المفهوم بمجموعة من الاعتبارات، التي تزيد حدة الارباك لتعقد المشهد العام، وتوتر دلالاته مع واقعه. - فبدءا من ارتهان وارتباط معنى النهضة الى حد كبير بمفهوم الغرب الحديث، بحيث يبدو هذا الغرب معيارا ونموذجا للنهوض والتقدم، إن لم يكن المقياس الأوحد، والمثير للدهشة هنا، هو ان مفهوم الغرب في الوعي العربي، مفهوم ملتبس بشكل كبير، بحيث يبدو كقيمة مطلقة للتحرر والتقدم والرقي والليبرالية والفردانية والتكنولوجيا والتقنية والحداثة وما بعد الحداثة عند جهة، بينما تنظر اليه جهة أخرى على انه الآخر المستعمر والمتآمر والامبريالي ومصدر الشرور والانحطاط الأخلاقي والخلقي. - هذه المفاضلة بين مفهوم النهضة كقيمة مستهدفة، بين حدين متناقضين، الرغبة من جهة "كرقعة جغرافية" تختزل ما تختزله من معان نهضوية حداثية، والارث الحضاري للعرب والمسلمين "كقيمة تاريخية" تختزل الارث والفكر والتجربة من جهة أخرى، وعليه فان متبني مفهوم التقدم والنهضة عادة يتم نسبهم الى آبائهم الشرعيين أي "الغرب"، بينما غيرهم عادة يتم ارجاعهم الى وصمهم بالماضوية والتراثية والتاريخانية، وهذا ما ولد اشكالية أخرى تحيط بمعنى النهضة، أقصد التوتر العميق في العلاقة بين مفهومي الأصالة والمعاصرة في الوعي العام. - كذلك لا مناص من القول: إن النهضة لابد لها من الانتظام في إرث قيمي حضاري ذي دلالات رمزية ومعيارية متعالية، لأنه دائما يتم الالتجاء لاستدعاء كل قيم التاريخ والحاضر والماضي وجميع الحقول المعرفية للانتصار لهذا المعنى، إلا ان الاشكال المنهجي الذي نحن بصدده، هو أن الخطاب لدينا استدعته كل تلك القيم والأدوات والمناهج ليقف عندها، لا ليتجاوزها لمعنى آخر أكثر شمولية واتساقا مع روح عصرنا الحاضر ومتطلباته. ارتهان النخب الحديثة بأدوات وآليات لا تعبر إلا عن مناهج مغايرة لمجالنا الحضاري، ولا تمت بصلة لمناهج وأدوات تنتسب الى أصالتنا، ومستنبتة ومبيأة، أو معاد انتاجها فكريا ضمن مجالنا الحضاري، يجعل من مفهوم النهضة مفهوما مستلب المعنى والمضمون وملتبسا في الوعي العام- ارتهان النخب الحديثة بأدوات وآليات لا تعبر إلا عن مناهج مغايرة لمجالنا الحضاري، ولا تمت بصلة لمناهج وأدوات تنتسب الى أصالتنا، ومستنبتة ومبيأة، أو معاد انتاجها فكريا ضمن مجالنا الحضاري، يجعل من مفهوم النهضة مفهوما مستلب المعنى والمضمون وملتبسا في الوعي العام، وبالتالي يضعف حالة التدافع والاستجابة لقانون التعاطي والتثاقف المنشود. - الملاحظة التي لا يمكن القفز عليها بأي حال، هي أن التدمير العام الذي حل بوعي النخب العربية أدى بالضرورة الى تشظي اتساع الهوة في وعي الجماهير، ما أصاب الأمة بشكل مجمل حالة أشبه بالفصام العقلي، وعدم الاتزان المعرفي، لتحديد رؤية واضحة تؤطر هويتها، حتى وإن بدا إشكال الهوية هذا مبررا ناتجا عن تعارض حقين من حقوق الانسان، وهما حق الانسان في التعبير والانفتاح والاطلاع على كل ما هو جديد لدى ثقافات الآخر، وحقه في الحفاظ على هويته وصيانتها، إلا ان هذا التيه والضياع المعرفي في التسالم على فهم "جمعي" لمفهوم الهوية، ادعى الى استلاب معنى حقيقي لمفهوم النهضة. - هذا الارتهان وذلك التدمير ولد جملة من التصنيفات الاختزالية للخطاب النهضوي عن طريق تحميل الوعي جملة من الماهيات المجردة والقوالب الجاهزة، التي لا تفسر واقعا ولا تحل اشكالا، ما أدى الى حالة من اللا فعل، بحيث بدت مفاهيم متقابلة مثل التقدم والتخلف والحداثة والماضوية والعقل والجهل والاصلاح والسلف وغيرها، متضادات متعاكسة يعلق عليها أي عملية لاستنطاق الفكر وتفسير سلوك وعي الأمة. خلاصة القول: إن غياب بنية فلسفية نظرية حقيقية، تؤسس وتؤطر لمفهوم الوعي الجمعي بالنهضة، عبر ايجاد علاقة جادة تتفاعل مع تحديات العصر وأدواته، وتعيد القدرة على امتلاك الفعل الحضاري عن طريق اعادة تركيب أجزائه عبر نهضة فعلية قائمة على أدوات عصرها.. وللحديث بقية.