قرب ميدان التحرير في القاهرة، وقف محمد وهو صبي يبيع المناديل الورقية، يتأمل شاباً نحيفاً وهو يرسم صورة كبيرة على الجدار لفتى مبتسم. كان الشاب يقف على وعاءي دهان فارغين، وإلى جانبه فتاتان تناولانه أدوات الرسم، فيما كان الصبي منهمكاً في متابعته. مشهد الشاب النحيف وهو يرسم على الجدران في ساعة متقدمة من ليل الخميس -الجمعة، كان لافتاً لآخرين توقفوا لتأمل ما يفعله. وهو أحد فناني الغرافيتي الذين يواصلون الرسم على جدران شارع محمد محمود في وسط القاهرة منذ مساء الثلثاء الماضي، رداً على إزالة الرسوم الغرافيتية التي كانت تزين هذا الشارع قبل أيام. «الثورة إكسير الحياة»، هي إحدى العبارات التي كتبها النشطاء، إلى جوارها عبارة «النهضة وكسة شعب»، في سخرية من شعار «النهضة إرادة شعب»، الذي ارتبط بحملة الرئيس محمد مرسي الانتخابية. ثمة وجه كبير لشاب يخرج لسانه في تحد لهؤلاء الذين أزالوا الرسوم، وقربه كتب أحدهم «تعيشوا وتدهنوا»، في رسالة إلى السلطة تجزم بالعودة إلى وضع الرسوم كلما أزيلت. ويستعد آخرون لإعادة رسم وجوه الشهداء التي كانت تزين سور الجامعة الأميركية قبل إزالتها. وكان الأمر قد أثار غضب عدد كبير من النشطاء والمثقفين المصريين، خصوصاً لما تمثله الرسوم الجدارية في هذا الشارع من توثيق لأحداث الثورة، وما يمثله الشارع، كرمز للمواجهات التي اندلعت حوله في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي بين المحتجين ورجال الأمن، وراح ضحيتها أكثر من أربعين قتيلاً إضافة إلى مئات الجرحى. والواقع أن رسوم الغرافيتي تمثل ملمحاً أساسياً من ملامح القاهرة منذ اندلاع الثورة المصرية. رسوم تسجل مشاهد الثورة وتمجد شهداءها، وأخرى ساخرة تصاحبها عبارات احتجاج. رسوم شارع محمد محمود، ترتبط في الأذهان بأحداث دامية. وكانت المواجهات العنيفة التي دارت في شارع محمد محمود، كفيلة بأن تجعل منه رمزاً للاحتجاج. هذا الشارع الذي يؤدي إلى «ميدان عابدين»، الذي شهد بدوره بداية الثورة العرابية في نهاية القرن التاسع عشر، كانت جدرانه موحية للكثير من فناني الغرافيتي للرسم عليها، وبات من اللافت رؤية صور الشهداء مرسومة على تلك الجدران. هنا مينا دانيال، الذي سقط أمام مبنى التلفزيون في مواجهات مماثلة، عُرفت ب «أحداث ماسبيرو»، وعلى مقربة منه صورة كبيرة للشيخ عماد عفت، الأمين العام للجنة الفتوى في دار الإفتاء المصرية، وإلى جواره علاء عبد الفتاح، طالب الطب، وكلاهما سقط في «أحداث مجلس الوزراء» التي تلت أحداث محمد محمود بأسابيع، وغيرهم من الشهداء. صار لكل وجه من الوجوه المرسومة قصة وحكاية، وصارت كل رسمة من رسوم الغرافيتي على جدران شارع محمد محمود شاهداً على حدث من الأحداث، وكأنه تاريخ مرسوم للثورة أشبه بما كان يفعله المصري القديم على جدران المعابد لتوثيق سيرة الفرعون، غير أنها هذه المرة توثيق لسيَر بسطاء صنعوا الثورة، فكيف لعاقل أن يمحو تلك الذاكرة المصورة بكل ما تحمله من قيمة؟ «قرار خاطئ» أزيلت رسوم محمد محمود عن قصد، أو بقرار خاطئ من أحد موظفي المجلس البلدي، كما جاء في بيان للحكومة. فالأمر يعكس نموذجاً لنوعية العقول النافذة في أحشاء السلطة، والتي لا ترى في تلك الرسوم أي معنى جمالي، بل ربما تراها شريكاً في تشويه المشهد الجمالي للقاهرة، جنباً إلى جنب، مع أكوام القمامة، وصور الإعلانات، وألوان البنايات. في جنح الظلام، أزيلت الرسوم التي كانت تزين جانبي الشارع، غير أن العشرات من النشطاء سارعوا إلى الرسم مجدداً، فبدت رسومهم أكثر قسوة هذه المرة في انتقاد النظام وجماعة «الإخوان المسلمين» التي يرى البعض أن ذلك الشارع بات يمثل لها ذكرى غير مستحبة، بتخلّيها عن النشطاء إبان تلك المواجهات وانشغالها بالانتخابات النيابية وقتها. ومنذ أن أزيلت الرسوم من شارع محمد محمود، يتوافد عدد كبير من النشطاء والمثقفين لمناصرة فناني الغرافيتي. وأصدرت «جبهة الدفاع عن الإبداع» بياناً تندد فيه بما حدث، مطالبة فناني الغرافيتي في مصر بالوقوف ضد هذه الجريمة. وورد في البيان: «يجب أن نقف ضد كل حدث طمسته يد الاستبداد أو عقول القهر. هذا هو دور المبدعين في حماية الثورة، وعليهم مساندة فناني الغرافيتي بكل دعم ممكن، وبالتواجد معهم أثناء قيامهم بالرسم». وسارعت حكومة الدكتور هشام قنديل إلى التنصل مما حدث، ووصفته في بيان أمس بأنه أمر ينافي رغبتها في الحرص على تخليد ذكرى الثورة، مشيرةً إلى دعوة قنديل الفنانين إلى تحويل الميدان إلى ساحة تليق بشهداء الثورة.