«الفيروس ينتشر»، هو عنوان التجربة التي يخوضها فنان الغرافيتي «جنزير» في قاعة «سفر خان» في القاهرة، بدعوة من القائمين على القاعة، لعرض تجربته الغرافيتية على جدرانها، في سابقة لم يألفها جمهور «سفر خان» في ضاحية الزمالك. يدرك جنزير بالطبع إن المكان الطبيعي للغرافيتي هو جدران الشوارع، لكنها تجربة قرر أن يخوضها ما دام الأمر لم يبتعد كثيراً عن روح الغرافيتي، كما إن العرض داخل القاعة في إمكانه تسليط الضوء على الفكرة التي يريد أن يقدمها بمزيد من الخصوصية والتحديد. وفي تجربته الجديدة هذه، يرسم بالأدوات نفسها التي يرسم بها أعماله على جدران الشوارع، ويتعامل بالتقنية نفسها تقريباً. غير أنه هنا، يمارس عمله الفني من دون التعرض إلى الضغوط التي يفرضها عليه الرسم في الشارع. فلا ضغوط هنا سوى التقيد بالموعد المحدد لعرض الرسوم كاملة أمام الجمهور في نهاية الشهر الجاري. ومن أجل هذا، يصل «جنزير» الليل بالنهار، لملء فراغ القاعة بإبداعات جدارية، يتصدرها ذلك الوجه المقنّع، أو «قناع الحرية» كما يسميه، والذي يرسمه هذه المرة وهو يخيط فمه بنفسه ليغلق رغبة الاحتجاج لديه إلى الأبد. فالقمع، كما يقول «جنزير»، يكون أحياناً قمعاً ذاتياً، من دواخلنا نحن، وليس بالضرورة من جهة خارجنا. يدافع «جنزير» في رسومه في قاعة «سفر خان» عن روح الاحتجاج، ويرى أن «لا شيء قادراً على وقف هذه الروح بعد الآن، فقد انطلقت شرارتها مع الثورة، وستتسلل شيئاً فشيئاً لتعيد صياغة الأشياء والمفاهيم والمؤسسات والأطر الاجتماعية، حتى يحدث التغيير الشامل، آجلاً أم عاجلاً». ويرى إن الأمر أشبه بالفيروس، ذلك الكائن الضئيل الذي لا يُري بالعين المجردة، لكنه يتسلل إلى أجسادنا فيصيبها بالتغيير. الفيروس هنا يشير إلى المتغيرات الجديدة التي اقتحمت الحياة السياسية المصرية منذ اندلاع ثورة 25 يناير، وتتمثل في أشكال المعارضة القوية والمتنوعة للنظام، والتي بات من المؤكد إن المجتمع لن يتخلى عنها، ليس هذه المرة. فعلى رغم أن التغيير لم يكن جذرياً، ولم يقض تماماً على منظومة الفساد، كما يقول، إلا أن روح الاحتجاج التي ولدت بعد الثورة ستكون من القوة والاستمرار، بحيث تؤثر لا محالة في منظومة الفساد المتشعبة في المؤسسات كافة. «جنزير» هو الاسم الذي عرف به محمد فهمي كفنان غرافيتي يرسم أعماله الاحتجاجية على جدران الشوارع، في تجربة قرر أن يخوضها قبل اندلاع الثورة المصرية. حينها كان الأمر جديداً، ومثيراً لاهتمام الناس، ولمضايقاتهم أيضاً. توقف «جنزير» عن رسم الغرافيتي فترة، لكنه عاد إليه مرة أخرى بعد الثورة، من دون الخوف هذه المرة من هذه المحاذير؛ فقد صار الغرافيتي ملمحاً أساسياً يميز شوارع القاهرة، وتحولت الجدران إلى مساحة كبيرة للاحتجاج. الرسوم تملأ الجدران وتنتشر حتى على الأرصفة وفي الميادين. أوقف «جنزير» ذات مرة إذ ضُبط «متلبساً» وهو يرسم في الشارع، وأفرج عنه بعدما ذاع خبر توقيفه واعترض نشطاء على هذا التوقيف الذي تزامن مع انتشار أحد رسومه ويمثّل وجهاً لرجل مكمّم، ومعصوب العينين وفوق رأسه جناحان. عُرف هذا الوجه في ما بعد باسم «قناع الحرية»، وانتشر كالبرق على صفحات التواصل الاجتماعي مع حملة للمطالبة بالإفراج عن «جنزير»، ليخرج الفنان الشاب أكثر تمسكاً بأدوات الاحتجاج التي يمتلكها. خلال الحديث مع «جنزير»، لا يسع المرء ألا أن يرصد لمعة الطموح في عينيه وأمارات الإصرار على وجهه، لا سيما حينما يسهب في الكلام عن تجربته. هو ليس فنان غرافيتي بالمعني الدقيق، يرفض هذا التصنيف، يقول إنه فنان فحسب، بصرف النظر عن الوسيط الذي يمارس من خلاله ذلك الفن، سواء كانت الغرافيتي أو رسوم «الكوميكس» (القصص المصورة) التي يعشقها منذ تخرجه في كلية التجارة حيث درس بعد فشله في الالتحاق بالفنون الجميلة. لم يدرس «جنزير» الفن في شكل أكاديمي، لكنه أدرك تلك الطاقة التي يحملها الفن كأداة للتغيير والابتكار، وبث روح الحماسة في قلوب الناس.