«سيأتي وقت ذروة لا يكون فيه الإنسان في حاجة الى ان يستمد دوافع سلوكه من تطلّعاته الى المستقبل، مهما يكن عقله مقتنعاً بإمكانية العمل من اجل مستقبل افضل، لأنه في ذلك الحين سيفعل ما هو صحيح لأنه صحيح لا أكثر، لا لأن ثمة مثوبات اعتباطية مرتبطة به، تلك المثوبات التي لا يقصد بها إلا اجتذاب انتباهه الشارد، وذلك لكي يدرك مثوباته الباطنية التي هي الأفضل...». هذه العبارة المستقاة من القضية التي تحمل الرقم 85 بين القضايا المئة التي تشكل سياق كتاب «تربية الجنس البشري» للكاتب والمفكر الألماني ليسنغ، كانت لا شك تكمن في خلفية أفكار هذا الكتاب حين انصرف ذات يوم من أعوام حياته الأخيرة، الى كتابة المشهد السابع من الفصل الثالث من مسرحيته الأخيرة (والأكثر شهرة من بين اعماله جميعاً)، مسرحية «ناثان الحكيم». ففي ذلك المشهد الذي أثار يومها جدلاً واسعاً وأدى، بين تفاصيل اخرى، الى منع عرض المسرحية في الكثير من البلدان الكاثوليكية في اوروبا، يستدعي صلاح الدين، القائد المسلم الذي كان يخوض في القدس آخر معارك الحملة الصليبية الثالثة، الشيخ اليهودي ناثان، الذي لفرط صلاحه وتسامحه كان يلقب من جانب الشعب ب «الحكيم». وحين يمثُل الشيخ العجوز في حضرة القائد العسكري المظفّر، وقد خيّل إليه ان صلاح الدين إنما يريد ان يطلب منه قرضاً مالياً في ظل ظروف اقتصادية سيئة، يفاجأ «الحكيم» بالسلطان وهو يسأله عن اي الأديان التوحيدية الثلاثة: الإسلام، اليهودية، او المسيحية، هو الذي يملك الحقيقة دون الدينين الآخرين. وعلى الفور لا يشعر ناثان بأيّ تردد أو وجل، بل يجيب عن سؤال السلطان بالرجوع الى امثولة الخواتم الثلاثة، وحكاية القاضي الذي عجز عن تحديد ايّ منها هو الحقيقي وأيّ هو المزيف بين تلك الخواتم وقد قدمها الإخوان الثلاثة: ذلك أن كلاً من الخواتم بلغ، في صنعه، درجة سامية من الكمال. ما يعني ان ناثان الحكيم، عاجز بدوره - وعلى رغم كل الحكمة التي يتمتع بها - عن الإجابة بوضوح عن سؤال السلطان. والحقيقة ان هذا الموقف كان هو الذي يشكّل خلاصة تفكير ليسنغ في آخر سنوات حياته، ومن هنا جعله جوهر تلك المسرحية الأخيرة التي كتبها في العام 1779، لتكون خاتمة مسرحياته الخمس عشرة التي وضعها في مسار كتابي مسرحيّ طويل واكب كتاباته الفلسفية. وهذه المسرحيات لا تزال تعتبر الى اليوم قمة ما وصلت إليه الكتابة المسرحية في ذلك الزمن المبكر، والأنموذج الذي سار على هديه بعض كبار كتّاب المسرح الألماني الذين ساروا على خطى ليسنغ من امثال كلايست وغوته. ومع هذا، من المؤكد ان ليسنغ لم يكتب «ناثان الحكيم» لتمثّل على خشبة المسرح، أو انه كان يأمل ذلك على الأقل. بل إنه كتبها لتكون اشبه بوصية فكرية له. وهو قال عن هذا، في رسالة بعث بها الى اخيه كارل، يوم 18 نيسان (ابريل) 1779، اي في اليوم نفسه الذي انجز فيه كتابة المسرحية: «انني اعتقد ان «ناثان الحكيم» هذه، ككل، لن يكون لها اي تأثير مباشر، حتى ولو قدمت على المسرح، وهو تقديم لا أعتقد انه سيحدث ابداً». واللافت ان المسرحية قدّمت متأخرة عن موت صاحبها عامين، في برلين، ولكن مع بعض التعديلات... كما قدّمت كاملة للمرة الأولى في القسطنطينية حيث حققت نجاحاً كبيراً ما كان احد يتوقعه، ما دعا أخا ليسنغ الى القول لاحقاً ان المسلمين (ويقصد اتراك القسطنطينية - اسطنبول) أنجحوا مسرحية «ناثان الحكيم» في وقت عجز المسيحيون عن فعل ذلك. المهم في الأمر ان مسرحية «ناثان الحكيم» منذ عروضها الأولى، كما منذ نشرها في كتاب، اعتبرت درساً في التسامح الديني واستكمالاً لأفكار ليسنغ التنويرية الإنسانية. واللافت هنا ان ليسنغ كتب «ناثان الحكيم» كردّ فعل على حزنه على وفاة زوجته الشابة، ولكن ايضاً كمساهمة في النقاشات الدينية الحادة التي كان، قبل سنوات قليلة خاضها ضد رئيس قساوسة هامبورغ المدعو يوهان غوتسه، وأوصلها الى الذروة في إحدى عشرة رسالة ضد غوتسه، محورها التسامح، ظهرت في العام 1778 في كتاب «ضد غوتسه». وقد بدت مسرحية «ناثان الحكيم» في النهاية، اشبه بمدخل الى كتاب ليسنغ الأشهر «تربية الجنس البشري»... لأن ما اثار اهتمام المفكرين بالمسرحية لم يكن في الحقيقة، أحداثها التاريخية بل جوهرها الذي ينادي بأن الأهم ليس التسليم الأعمى بالعقائد، بل الإخلاص والمحبة بين البشر والتسامح. وكان ليسنغ يرى انه في مثل هذا التفكير يعبّر عن الجوهر الحقيقي للمسيحية، ذلك الجوهر الذي «يقوم على المحبة الأخوية والأخلاق». وهو كان في ذلك طبعاً يعبّر عما فهمه المفكرون التنويريون لمرحلة ما - قبل - الإلحاد، من علاقة الدين بالإنسان. تدور احداث «ناثان الحكيم» إذاً، في القدس إبان استعادة صلاح الدين لها في عهد الحملة الصليبية الثالثة. وهي إذ تتمركز حول ادخال ليسنغ فيها حكاية الخواتم الثلاثة التي ترد في اول قصة من قصص «ديكاميرون» لبوكاتشيو، تنطلق من ذلك لتصب في محور درامي عماده اليهودي ناثان، العجوز الذي يعرفه العامة باسم «الحكيم» كما اشرنا. ولناثان هذا ابنة بالتبني تدعى ريشا تمكّن احد فرسان المعبد من إنقاذها من حريق كاد يقتلها. وبفضل ذلك الإنقاذ، يقوم القائد صلاح الدين بالعفو عن الفارس الذي كان محكوماً بالموت هو وتسعة عشر فارساً آخرين، خصوصاً ان صلاح الدين رأى ان ثمة شبهاً بين الفارس وأخيه (اي شقيق صلاح الدين) الذي كان قد اختفى بصورة غامضة. وكما يحدث عادة في الروايات، يغرم الفارس بريشا التي يعتقدها يهودية ولكن من دون ان يحول ذلك دون طلبه يدها من ناثان. لكن العجوز لا يوافق اول الأمر، ذلك انه، في الحقيقة يشتبه - انطلاقاً من معطيات معينة - في ان ريشا والفارس أخوان وأنهما ولدا أسعد، شقيق صلاح الدين الأصغر. وكان اسعد قد توجه سابقاً الى ألمانيا حيث اقترن بامرأة ماتت باكراً، بعدما انجبت طفلة سميت بلاندين وعهد بها الأب الى ناثان الحكيم لكي يهتم بتربيتها، فرباها بعدما سمّاها ريشا. وإذ يكشف ناثان هذا السر امام صلاح الدين والشقيقين، يتوصل هؤلاء معاً، وهم ينتمون الى الأديان الثلاثة، الى نسيان الهوة التي تفرق بينهم - دينياً - وتتحول المسرحية الى درس عميق في التسامح ووحدة الرؤية والهدف بين الأديان. لم يعش غوتهولد افراييم ليسنغ سوى 52 سنة، هو المولود في العام 1729 في مدينة كافنر، والراحل العام 1781 في برونشفيغ، لكنها كانت سنوات كفته لكي يخوض غمار الشعر والفلسفة والمسرح والنقد الأدبي. وهو كما ذكرنا، نجده في المسرح كتب 15 مسرحية على الأقل - «ناثان الحكيم» كانت آخرها وستظل اشهرها -. وهو ولد ابناً لقسيس ودرس مبكراً اللاهوت واللغات ثم درس الطب قبل ان يعود ثانية الى اللاهوت والفلسفة. وبدأ ينظم الشعر باكراً. لكن الشهرة الحقيقية بدأت تطلّ عليه من خلال ملاهٍ كتبها بعد ذلك بتأثير من المؤلفين اللاتينيين، محمّلا إياها أفكار عصر التنوير التي آمن بها منذ صباه. وهو بعد نجاح مسرحياته الأولى توجه الى برلين حيث اشتغل في الصحافة وتابع كتابة الشعر والمسرحيات في الوقت نفسه الذي واصل فيه دراساته الجامعية. ثم اسس مع موسى مندلسون وآخرين، مجلة للنقد الأدبي، اشاد فيها للمرة الأولى في ألمانيا بمسرح شكسبير مطالباً بالكتابة على غراره. وبعد ذلك نراه يخوض التجارة، ثم يبدأ بنشر كتابات فكرية وفلسفية يجادل فيها رجال الدين. واهتم كذلك بالمسرح والنقد، وراح يكثف ما ينشره وقد احس خلال سنواته الأخيرة بدنو اجله. وهو خلّف، الى مسرحياته، عددا من الكتب الفلسفية والنقدية البارزة، اهمها بالطبع «تربية الجنس البشري» كتابه الكبير الأخير. [email protected]