مَن من العرب وغيرهم لم ينشئ خطاباً ويسجل موقفاً من المسألة الفلسطينية. بل، لكثرة ما قيل وما سُجّل وما تراكم وترسّب لم نعد نرى تفاصيل القضية أو جوهرها. إلا أن تداعي عالم القطبين وحروبه الباردة ومحاور إقليمية ونشوء أخرى ومجيء الحراك العربي بضربته القاضية على مراكز عربية متقادمة حرّر المسألة من «واجباتها» نحو هذه المراكز ومن قيود فُرضت على حركتها وفكرها. وكنّا رأينا أن المسألة الفلسطينية ارتهنت بالكامل - ولم تتفاعل فحسب - لمراكز عقيدية وسياسية عربية وأجنبية. وبلغ الأمر بها حدّ الخطأ الفادح حين عملت لمصلحة محور ضد آخر واستُعملت كأداة في يد البعض ضد البعض الآخر. بعض آثار هذا المشهد لا تزال قائمة مع الإصرار الإيراني على تمثيل دور حامي حمى فلسطينوالقدس. وكان سبقها إلى هذه الوظيفة آخرون. فالمسألة الفلسطينية بالنسبة لإيران حجر يشحذ على دورته الخطاب الإيراني تجاه إسرائيل وتجاه العرب أجمعين خصوصاً في الخليج. ويقوم حزب الله بترجمة الفعل ذاته فيحوّل المسألة الفلسطينية إلى حجر يسنّ عليه أسنان «المقاومة» ويلوّح بها تجاه الداخل والخارج اللبنانيين على السواء. ومهما اجتهد هؤلاء في طهران وتلامذتهم في ضاحية بيروت فلن يستطيعوا أن يُخفوا هذه الحقيقة. فهم لم يأتوا بجديد بمقدار ما ساروا على درب القاهرة ودمشق وبغداد وغيرها من عواصم اتكأت على الحق الفلسطيني لتمرير مشاريع لها ضد هذا الحق أو من خلال إرجائه إلى أجل غير مسمى. ولا نتوقع منهم أن يكفّوا عن ذلك طالما أن لهم حساباتهم مع إسرائيل ومع العرب. مع إسرائيل التي استطاعوا أن يحوّلوها إلى ضحية ومع العرب على خلفية عقائدية دينية وليست سياسية فحسب. «صدامية» شيعية تزاود على «تخاذل» سنّي في مسألة فلسطين التي تصير عندهم مسألة القدس والحرم القدسي وهو الحديث المكرور للتستّر على خطف المسألة كمسألة شعب يتوق للحرية والاستقلال أو كنس الاحتلال على الأقلّ أو تثبيته في عاصمته المشتهاة! مثل هذا الخطاب أنشأه آخرون من قبل واستمروا في إنشائه إلى أن أقرّ العاقلون من العرب بجدوى التحدث بلغة أخرى وصاغوا المبادرة العربية في بيروت والرياض. إن ما أنشئ قبل ذلك في المسألة الفلسطينية وما تحاول إيران أن تكرّسه الآن لا يتعدى كونه ضباباً ودخاناً لا يُقصد به إحقاق الحقّ الفلسطيني وإنما استثمار هذا الحق في لعبة المحاور الإقليمية وتجاذباتها. وهو ما يُمكن القيادة الفلسطينية أن تتبرأ منه وأن تضع له فصل الخاتمة من ناحيتها، في أدائها وخطابها وممارستها لديبلوماسية. وقد حان الأوان لفعل لذلك. بل إن التحرر من الارتهان لقوى الخارج الفلسطيني ومشاريعها ولولاية الفقيه و «فقهها» هو شرط للتحرّر من الاحتلال ومن قبضة التاريخ. تكاد المسألة الفلسطينية تبرأ من عُقدة العسكرة ومن المطابقة بين فعلها وبين الإرهاب. وهو تطوّر لافت ينبغي أن يتكرّس جهداً مدروساً ينقلها من «العسكري» المتوهم إلى المدني العاقل، ومن لغة الأماني إلى لغة السياسة والمُمكن، من لغة الغيبي الواعد بنصر إلهي أو بمجيء الإمام إلى لغة عملية تطوّر إمكانات العيش واقتصاديات البلد وتحرر القضية من انسداد روايتها. ونأمل في أن حركة حماس خبرت وبالطريقة الصعبة جدوى مثل هذا التحوّل. أما الخطوة اللازمة المقبلة قبل الذهاب إلى الأممالمتحدة من جديد فهو تحرير المسألة من العبء الإيراني الضاغط على عنقها ديبلوماسياً ومعنوياً. يكون ذلك بالعودة إلى المعنى الأول للمسألة الفلسطينية كقضية شعب يتطلع إلى حق تقرير مصيره وليس أي شيء آخر! بمعنى، هناك ضرورة لفعل فلسطيني مدروس يزيل عن المسألة الأثقال الزائدة كلها فيعود شعب المسألة إلى الواجهة بحقوقه وتطلعاته المشروعة، بل اعتقادنا أن الحراك العربي الراهن من شأنه أن يكون فرصة للفلسطينيين لتجديد مشروعهم على أسس جديدة ومطوّرة متحررة من ضغوط الجوار العربي ومن مشاريعه التي أجّلت الفلسطينيين بمقدار ما استثمرت قضيتهم - النظام البعثي في سورية مثلاً. ولا يصحّ أي تأجيل بعد الآن. وهو خير ما تفعله القيادة الفلسطينية قبل العودة إلى أروقة الأممالمتحدة ومبادئ قرار التقسيم.