مع تقديم الرئيس الفلسطيني طلب الاعتراف بفلسطين دولة مستقلة إلى السكرتير العام للأمم المتحدة مساء الجمعة الفائت، تدخل المسألة الفلسطينية مرحلة جديدة ومهمة فيما نسميه إعادة إنتاج وتصحيح مسار. نقول هذا وأمامنا كمّ من النصوص والتحليلات الفلسطينية والعربية القاصرة عن إدراك مدلولات هذا الحدث، فرأته إجرائياً أو شكلياً لا جدوى منه! هناك أهمية في حصول الاعتراف الدولي كحدث يصمّم من جديد المسألة الفلسطينية ويحسن من موْضَعَتها في إطار اللغة الدولية، وهي لغة الديبلوماسية والشرعية الدولية التي شهدت تحولات جلية في العقدين الأخيرين. وهناك أهمية لذلك في إطار المتغيرات الشرق أوسطية وتغيير موازين القوى العالمية، وأبرزها نشوء مراكز قوى جديدة وتعدد المحاور من خلال انحسار واضح للدور الأميركي - وهو ما سنعود إليه لاحقاً. وهناك أهمية خاصة في هذا الحدث لأنه يُعيد رسم الحدود واضحة بين المسألة الفلسطينية بصفتها مسألة شعب يتوق للتحرر وحق تقرير مصيره، وبين الإرهاب والإرهاب الدولي في شكل عام. وهو فكّ ارتباط كان ضرورياً منذ 11 سبتمبر إذ لم يكن من قبل بخاصة أن إسرائيل وحلفاءها بذلوا كل جهد ممكن وغير ممكن لإدامة تطابق بين هذه وذاك، وهي براءة منه! من هنا، فإن الذهاب إلى الأممالمتحدة ليس إجراء شكلياً ولا هو خطوة يائسة كما يصورها البعض بل بداية جديدة للحيوية الفلسطينية الباحثة عن أفق جديد خارج إغراء ما سمّيناه «العنف الثوري المقدّس» أو «دفاع الضحية عن نفسها»! فيما يتّصل باليوم التالي للاعتراف إذا حصل فإنه يخلق واقعاً جديداً للمسألة الفلسطينية وسط لغة القانون الدولي والإنساني. إنه يستتبع وضعاً دولياً لن تكون فيه إسرائيل حرة فيما تفعله وتحتله وتقترفه من جرائم ضد البشر والحجر. فالاعتراف سيفتح الباب أمام انضمام فلسطين لمعاهدات ومحافل دولية واتفاقيات مناطق التجارة الحرة والدخول في تحالفات ومعاهدات ثنائية، كأي دولة. ويتيح لها أيضاً الانضمام إلى محكمة العدل الدولية في هاغ وإلى المحكمة الجنائية الدولية. وهذا يعني توافر استثمارهما كآليتين لتوفير نوع من الحماية والردع للفلسطينيين. كما أن هذه المكانة - دولة معترف بها - ستُمكنها من التحرك بتأثير أكبر في المحافل الدولية اقتراباً من مصالح شعبها. ناهيك عن أنه موقف جديد يقوي المفاوض الفلسطيني ويمنحه غطاء دولياً ومرجعية يستطيع العودة إليها في مواجهة التعنّت الإسرائيلي الذي حوّل المفاوضات في السنوات الأخيرة إلى غطاء لاستمرار الاحتلال وأنشطته! وهو ما قد يدفع دولاً ومجتمعات ومنظمات عالمية إلى تشديد سياستها وموقفها تجاه سياسات إسرائيل واحتلالها لجهة مطالبتها بالاستجابة للمطلب الفلسطيني. لا صحّة للاعتقاد، أو لما تروّج له الدعاية الإسرائيلية، بأن خطوة الاعتراف تحرّر إسرائيل من كل مسؤولية أو واجب تجاه الفلسطينيين في المناطق المحتلة أو تلك التي لا تزال إسرائيل تتحكم بقسط كبير من حياتها وحدودها مثل غزة. وهذه قراءة مجتزأة للقانون الدولي الذي يفرض على إسرائيل كل واجباتها بحجم سلطتها أو تحكّمها بالمناطق الفلسطينية. فعلى رغم كل عدائها لحركة حماس المسيطرة في قطاع غزة، وعلى رغم الحصار هناك، فهي تقوم بحكم القانون الدولي والإنساني، بمدّ القطاع بالكهرباء وبالماء والوقود والبضائع - وإن كان بكميات محدودة - كجزء من مسؤولياتها. بل إنها اضطرت لتحسن ذلك في ضوء الضغط الدولي بعد أسطول السفن إلى غزة! صحيح أن الولاياتالمتحدة أكّدت أنها ستلجأ إلى الفيتو للحيلولة دون تحقيق الخطوة في مجلس الأمن لكنها باعتقادنا لن تفلح بمنع تحقيقها في الجمعية العمومية للأمم المتحدة. لكن سنرى في هذا الموقف موقفاً أميركياً داخلياً يندرج في إطار استعداد أوباما للفوز بجولة انتخابية ثانية من خلال جذب الصوت اليهودي. ويقيناً أن أبو مازن أحسن صنعاً عندما رفض أن يرهن المسألة الفلسطينية لمعركة انتخابات أوباما. ونرجح أن لا أحد بعد الآن سيرهنها لمثل هذه الحسابات. بل نرى في قرار أبو مازن، على رغم كل الضغوط عليه، منتهى الحكمة إذا ما احتسب أثر خطوته على العلاقات الأميركية - الإسرائيلية - الأوروبية، في داخل هذه السياقات وفي ما بينها. من شأن هذه الخطوة أن تفجّر النقاشات داخل البيت ألأوروبي والإسرائيلي والأميركي، وأن تضغط منظومة العلاقات بين هذه الأطراف لجهة حشرها أمام السؤال الفلسطيني وعدل قضية شعب نجح أبو مازن في وصف طريق جلجلته أمام الأممالمتحدة. الخطوة تحرك تيارات ضاغطة داخل هذه المنظومة يستدلّ من سجالاتها الراهنة على أنها ستزيد الضغط على إسرائيل وتستقدم المزيد من المناصرين والدعم للقضية الفلسطينية في أوروبا وفي أميركا اللتين ستجدان نفسيهما في ضغط دولي هائل وعربي طبيعي في ظل الربيع العربي ومفاعيله. حدث سيضغط إسرائيل من داخلها، أيضاً. ويكفي أن نقرأ ما يكتبه إسرائيليون عن رئيس حكومتهم وشكل ما يكتبون لنعرف أن قوى واسعة في إسرائيل تبني على الخطوة الفلسطينية وتعوّل عليها كخطوة تبعث على الأمل بتسوية. وفي هذا تبدو الخطوة الفلسطينية وقد نجحت قبل استكمالها. نجاح الخطوة الفلسطينية في إنتاج الأثر الذي ذكرناه مرهون فلسطينياً بأمرين اثنين وهما: الأول - الحفاظ - مهما يكن - على الطابع السلمي واللاعنفي لكل ما يفعله الفلسطينيون في المرحلة المقبلة حتى في ردّ على إجراءات إسرائيلية مرتقبة تريدها القيادة الإسرائيلية عقاباً أو ردعاً! ولا بدّ في هذا السياق من التحذير من الانجرار وراء استفزازات إسرائيلية أو مشاريع توتير تقودها أوساط المستوطنين. وهذا، يقودنا إلى الأمر الثاني - المهم في هذه المرحلة الظهور بمظهر الإرادة الفلسطينية الواحدة أو على الأقل بمظهر القيادات التي تنسق مواقفها وتوحّد خطابها. كي يستوي الحق الفلسطيني على متن اللغة الدولية التي يطلب دعمها ومساندتها، فلا يبدو منقلباً عليها خاذلاً لها. القرار الأممي إذا ما صدر فإنه سيحرّك المسألة الفلسطينية على بوصلة جديدة في أكثر من حيز. وهو ما يحمّل القيادات الفلسطينية حيثما هي مسؤولية الإبقاء على هذا الحراك وهذه الحيوية. ولا أفضل من المضي قدماً حيث الطريق سالكة في إنتاج نحوٍ جديد للمسألة الفلسطينية.