بمراجعة التاريخ السياسي الإسلامي الممتد لأكثر من 14 قرناً من الزمان يمكننا أن نستنتج بسهولة أن الشعوب العربية كانت ولا تزال وقوداً يحترق باستمرار لإيصال الساسة الذين يرفعون الشعارات الدينية إلى كراسي الحكم... ثورات تتلوها ثورات لإسقاط دولة وإقامة أخرى، ولنزع حاكم وتعيين آخر، أتى بشعار ديني أكثر تأثيراً من سابقه... الفترة الوحيدة التي خلت من هذا الإطار فترة الثورة العربية الكبرى وبقية الثورات الانفصالية عن دولة الخلافة «العثمانية»، حدث ذلك حين اصطدمت الشعارات الدينية بالشعارات القومية في مجتمعات عبث بها الظلم وطحنتها ديكتاتورية الخلافة العثمانية المتوحشة... حين ذاك لم تجد القوى الثورية العربية حرجاً من التعاون مع القوى الغربية غير المسلمة في سبيل إنهاء حقبة سوداء من تاريخها. وفي عقر دارها جاءت النهاية الدراماتيكية لدولة الغول العثماني ذي الشعارات الدينية في عشرينات القرن الماضي على يد «القوميين الأتراك» بزعامة مصطفى كمال أتاتورك، الذي طرد الخليفة وأسرته من البلاد، وألغى وزارتي الأوقاف والمحاكم الشرعية، وحوّل المدارس الدينية إلى مدنية، وأعلن أن تركيا دولة علمانية، وهو ما مثّل أكبر انتصار تاريخي للأتراك على أنفسهم... لم يكن انتصاراً عسكرياً بقدر ما كان انتصاراً شعاراتياً، إذ كانت الدولة العثمانية منتهية تلقائياً وجنازة تنتظر الدفن بعد الحرب العالمية الأولى والثورات القومية التي فككتها وانتزعت أنيابها تماماً. الصراعات السياسية تحت مظلة الشعارات الدينية والقومية في العالم العربي لم تتوقف يوماً ما بعد سقوط العثمانيين، وظلت القوى السياسية المختلفة تستخدم الشعار المناسب في الزمان المناسب للوصول إلى السلطة، فعندما تتفشى العاطفة الدينية في دولة ما تحت ضغط ظروف سياسية معينة تتوهج الأحزاب التي ترفع الشعارات الدينية وتزداد شعبيتها وقوتها، فيما تبرز قوى أخرى في مقدمها القوى العرقية ذات الشعارات «القومية» في ظروف سياسة مختلفة، أما الشعارات «الحقوقية» المنادية ب«الديموقراطية» فهي في العالم العربي مجرد وسائل أو «مطايا» تُستخدم لإيصال الإسلاميين أو القوميين للسلطة قبل أن ينقلبوا عليها عملياً من دون تصريح، لتظل «كرتاً» يمكن استخدامه في أوقات لاحقة إن لزم الأمر.. ولا شك أن هناك قوى عالمية عظمى من مصلحتها تقديم شعاراتيٍّ على آخر في فترة زمنية معينة، وتبديل الأدوار بينهما في فترة أخرى، ولعل أحداث الربيع العربي خير دليل على عملية تبديل الأدوار، على رغم أنها حملت في المجمل شعارات «التحرر والديموقراطية»، لكن المحصلة النهائية تمثلت في تسليم السلطة لأحزاب الشعارات الدينية في أكثر من دولة، واستناداً إلى التجارب التاريخية السابقة فإن مصير هذه الأحزاب الحاكمة لن يخرج عن مسارين قبل أن يغادرا السلطة، أولهما: أن تتخلى هذه الأحزاب تدريجياً عن شعاراتها تحت ضغوط سياسة الواقع، وتتحول مع الوقت إلى مسخ شعاراتي يسقطه من يرفع شعاراً أقوى تأثيراً، أما المسار الثاني: فهو ما سينتج عما يحدده الناخب الأميركي، الذي إن جاء بحكومة «جمهورية» يقودها «الصقور»، فمن المرجح أن تعمل جدياً على إنهاء ربيع الأحزاب الإسلامية، وجعلها ذكرى ظلامية، كما حدث مع «طالبان» في أفغانستان، أما إن فازت جماعة «أوباما» الديموقراطيون، فسينشغلون بقضاياهم الداخلية ويتركون الشعوب العربية ترتب فوضى شعاراتها مع دعم من يخدم مصالح بلادهم من خلف الستار، بغض النظر عن شعاراته المستخدمة للاستهلاك العربي. [email protected] Hani_Dh@