لم يدرك السيّد ميشال سماحة أنّه بنقله المتفجّرات في سيّارته، وهو النائب والوزير السابق والقطب السياسيّ والنجم التلفزيونيّ، كان يفتتح الطور الغرائبيّ العمليّ من عمر الممانعة. والغرائبيّة واحدة من صيغ اللامعقول والخارق الذي لا يقبل التصديق ويكاد يفيض عن الخيال. ذاك أنّه لم تمرّ إلاّ أسابيع على اعتقال سماحة حتّى كانت فضيحة الترجمة في مؤتمر عدم الانحياز في طهران. فقد كان من الممكن للحكم الإيرانيّ أن يفعل كلّ شيء، في محاولته تفادي الإحراج المصريّ، إلاّ هذا الذي فعله. وهو إذ اعتذر عن «أخطاء المترجم» الذي جعل سوريّة البحرين فإنّه أضفى على غرائبيّة فعله جرعة أخرى. صحيح أنّنا عشنا حتّى التشبّع الطور الغرائبيّ اللفظيّ: ففضلاً عن دفق الفتاوى المتلفزة، سبق لأحمدي نجاد أن أخبرنا أنّه ساهرَ المهدي، كما أعلمنا بقرب حلوله بيننا مصحوباً بالمسيح. كذلك حدّثنا حسن نصر الله مراراً عن «نصر إلهيّ» أنجزه في 2006. وهذا كي لا نستعيد نظريّات بعض أهل اليسار الشعبويّ ممّن ينتظرون عودة غيفارا من الغيبة. لكنّنا الآن أمام ما يتجاوز الخطبة أو العبارة العابرة أو الفتاوى الكثيرة المتلفزة وغير المتلفزة. إنّنا حيال أعمال وممارسات مباشرة. فهنا تنتصب أمام أعيننا منظومة غرائبيّة في السلوك، منظومةٌ يطمح أحد رموزها (سماحة) إلى تفجير البشر، فيما يطمح رمزها الآخر (الترجمة الإيرانيّة)، الأكبر والأقوى طبعاً، إلى تفجير العقل والمعنى. والانحدار إلى مستوى كهذا لا يفسّره إلاّ فقدان السيطرة على العالم المحيط وما يجري فيه، بحيث تتعطّل سائر أدوات التحليل المألوفة في مواجهة ما لم يُتوقّع ولم يُتخيّل. فأن يتغيّر معنى «الثورة» نفسه، وأن تتحوّل مصر («مصر كامب ديفيد» والعياذ بالله!) على النحو الذي تحوّلته، وأن تعجز المتاجرة بفلسطين عن تعبئة أحد وعن إقناع أحد، وأن تصير الصراعات والنزاعات والمهاترات بين ممانعين وممانعين خبراً يوميّاً...، فهذه كلّها تشي بفقدان السيطرة ذاك على العالم المحيط. وتلعب الثورة السوريّة، في هذا المجال، دوراً مركزيّاً رائداً. فهي، فضلاً عن تعريتها جبال الأكاذيب المقدّسة، وضعتنا وجهاً لوجه إزاء واقع لا يحتمل التصديق: إسقاط نظام البعث ذي ال49 عاماً ونظام الأسد ذي ال42 عاماً التي كان خلالها معظمُ الشرق الأوسط يدور حول «سوريّة الأسد». إذاً لا بدّ من الاستنجاد بالغرائبيّ مقروناً بهجاء مُرّ للعالم الذي لا يسير «وفق توقّعاتنا»، وللمعاني والدلالات التي «تخوننا» وتتمرّد على «أفهامنا». هكذا نردّ على ما يتراءى لا معقولاً في الواقع بلا معقول السلوك، فضلاً عن لا معقول الكلام. لكنْ أن يمارس نظام يحكم أكثر من ثمانين مليوناً هذا التزوير الرخيص والتافه لخداع شعبه، فهذا دليل على أنّ نظام الترجمة غير قابل للحياة، ناهيك عن جدارته بالموقع السلطويّ الذي يحتلّه ممّا لا تضمنه الصواريخ. ذاك أنّ الغرائبيّة هنا من درجة عاشرة، وهي لا تليق بكذّاب فردٍ غير مسؤول إلاّ عن نفسه. وهذا فضلاً عمّا نعرفه من عدم جواز الكذب دينيّاً، والنظام في إيران دينيّ! بيد أنّ دخول الطور العمليّ من الغرائبيّة مؤشّر خطير مفاده أنّ كلّ شيء ممكن حتّى لو كان هيوليّاً، من أجل ألاّ تسقط شعرة من رأس الممانعة أنظمةً وأفكاراً.