في روايته المنهوبة يؤكد الروائي عواض شاهر على الاستمرارية في خطه الروائي ، الذي يحتاج الكثير من الجدية والعناية بتكنيك كتابة النص ، وهذا ما يفعله عواض شاهر ، والذي يمنح الراصد لتجربته الروائية انطباعا بأنها تجربة مستقلة في الرواية السعودية ، تنأى عن الكتابة السهلة والمجانية للرواية . وخصوصية هذه التجربة قد تجعله يخسر المقروئية الجماهيرية لكنها بالتأكيد تفرز قارئها الخاص .وفي هذا الحوار ل ( ثقافة اليوم ) يمنحنا الروائي عواض شاهر تصوره عن راويته المنهوبة : - رواية المنهوبة هي الراوية الرابعة في مسيرتك السردية ،لاحظت أنها تكرس قناعتك بشكل الرواية ، وتمثل امتداداً لما سبق ، هذه القناعة هل تعتقد بمواصلتها في التجارب القادمة؟ وهل تشعر أن المنهوبة استنفدت عواض غرائبياً وتقنياً ؟ بمعنى هل نقول إنك ستذهب فيما بعد إلى رواية التفاصيل وحميمية الذات ؟ = قناعتي بالشكل لا يحكمها الثبات، وكل الأشكال السابقة لم تنتج من قناعة، بمعنى أن الكتابة الإبداعية تتأبى على الانقياد إلى أساليب منقضية، القناعة حالة سكونية، والثبات تنميط للأشياء، أنا ضد قناعة من هذا اللون، عندما أكتب أعيش جو العمل وأسمح له بالتشكل من داخله وأنطلق معه بحسب ما تقترحه لحظة الكتابة، وهي بالنسبة لي عمل مشترك بين النص وكاتبه، لكن هذا لا يعني الفوضى والتوهان، من المعروف أن لدى كل كاتب إطاره العام إذا كتب سواء في الشكل أو في المضمون، وهو حينما يتصل بنصه كتابياً فإنه لا يأتي بأجزاء من هذا الإطار ويترك أخرى بل يحاول منحها كلها حق الظهور والتشكل بممكناته الفنية المتاحة وبتصوراته المفترضة لعمله، ومع ذلك من عادة الكتابة الإبداعية أن تجادل الكاتب في أشياء وتوافقه في أشياء. الكاتب ليس حراً وهو يكتب، أقصد في ما يتعلق بهذه الإشكالية، الكاتب ونصه. بخصوص المنهوبة وأعمالي السابقة، أعتقد أني كتبتها وأنا في ذهني هذه المسألة، حاولت ألأ أقع في مأزق التكرار. وهذا ما سيحدث في المستقبل لو حاولت كتابة رواية أخرى، ولم أفهم ( رواية التفاصيل وحميمية الذات ) لأنها عبارة غير واضحة، ربما عنيت ذات الكاتب وتفاصيل هذه الذات وحميميتها كمحور أساس للعمل، لكن الكتابة من هذا الباب ستبقى مقيدة بالأنا وطغيانها على العمل كله، بل هي العمل كله في تصوري، ولن يكون هناك مجال لحرية المخيلة والاغتراف من الحياة والواقع وهمومه. - الغرائبية لا يكتمل سحرها ، إلا عندما يكون في النص حكاية تجعل تلك الغرائبية نافذة إلى مخيلة القارئ ، لكن ما لاحظته في ( المنهوبة ) أن عمق الحكاية محدود . وإنك لجأت إلى حكايات هامشية لملء الفراغ ، هل الأمر يبدو كذلك ؟ = أنت تنطلق من وجهة نظر خاصة بك، وهذا شيء طبيعي، لكن لنترك العمل للقراء. الكاتب إذ يصدر عملاً، لا يكتبه ليقول شخص واحد رأيه فيه بل يكتبه ليسمع آراء الناس، ليقرأ تصوراتهم حول عمله، عن انطباعاتهم، وعن رفضهم أو تقبلهم له، والاستفادة، إذا حدثت، تكمن في الكل وليس في الواحد. - عن الغرائبية مرة أخرى ، وجدتك مفتوناً باستحضار هذه الحالة بما هو فوق طاقة النص ورغم البراعة في تقديمها .إلا أني شعرت أن النص يئن من هذا البعد الغرائبي . هل هو شغفك الذي جعلك تميل إلى هذا الحشد الهائل من الصور الغرائبية؟ = أعتقد أن الغرائبية كما تسميها لم تكن في العمل بالشكل الذي تتصوره، أو لنقل لم تكن بالصورة الحادة في غرائبيتها، إن كنت تقصد ما يخص جبر وسعدانة، أو الشملة عند سلمان، فهذه مشاهد مفارقة للتصور التقليدي، وليست غرائبية كما في بعض عوالم الروائية رجاء عالم مثلاً، أو عند كُتَّاب الواقعية السحرية، وليس كل مفارق للتصور التقليدي في معانيه البسيطة يصح أن نطلق عليه هذه التسمية، على سبيل المثال رجل عنده ستة أصابع، أو شخص يقع قلبه في الجهة اليمنى، هذه حالات مفارقة للمألوف، لكن لو رأيت شخصاً يولد ويشيخ بسرعة كما عند سليم بركات في ( فقهاء الظلام ) فهذا غرائبي. أنا ركزت في المنهوبة على التشوهات التي تقع، والتي يمكن أن تحدث لأي كان عندما تختل عنده العلاقة بين الحياة الطبيعية وما يجري على أرض الواقع سواء فرضت عليه أو هو فرضها على نفسه بسبب تصورات خاطئة يعتقد أنها صائبة. التشوهات عند جبر، لو قرأتها بعين فاحصة لربما تغيرت الصورة عندك للأبد، والشملة اكتسبت سمعتها من اللطخة السوداء التي لا تزول منها، وحدث هذا أيضاً مع الرسوم الغريبة على الجدان في روايتي ( أكثر من صورة وعود كبريت ) ولكن في تناول مختلف. هناك مشهد واحد يخص منازل حينما وقفت على شفا الهاوية ربما يلامس فضاء البعد الغرائبي لكنه وقوف تشكل الحافة برزخه إذا نظرنا للحافة كحد يفصل بين عالمين. - لا يزال عواض بارعا في كتابة المشهد الروائي ، لكن هذه المشاهد والتي تكاد تمثل نصوصاً مستقلة بذاتها ، لا يتم جذبها الى النص وتذويبها فيه . تظل استقلاليتها ظاهرة للعيان . كيف تبرر هذه المسألة ؟ = التقاطة وجيهة، وهذا يدخل في رؤيتي لكتابة شكل روائي قائم بعناصره ومشهدياته، وفي الوقت نفسه لا يخضع لصرامة النسق الروائي التقليدي، أحاول أن أكتب على أساس الوحدات التي يمكن أن تجمع بين العمل الروائي والشكل القصصي، هذا التركيب يساعدني على الاستفادة من فنيات القصة في حذف الفائض وممكنات الرواية من جهة البقاء على النسق من دون إخلال بالشكل العام، لكن هذا يتطلب جهداً وخبرة لابد منهما ليتم بطريقة جيدة. وهي على أي حال مراودة لما يقع خارج الشكل العادي في الرواية العربية والمحلية. - أنت تملك النفس الطويل في الكتابة . وهذه الميزة أجدها أحيانا تجنياً على النص . ففي كثير من المشاهد لاحظت الاستغراق في توصيف المشهد .. حينها اشعر انك لست صارماً مع تدفقك . كمشهد (قطعة الشملة ) و ( ذئب وكاد ) . ؟ = التدفق استغراق أحياناً، عندما أجد الشخصية غنية بالتجارب فحتماً هناك متناقضات فيها لابد من التنبه له، وهذا يعطيني تدفقاً، لك أن تسميه استغراقاً، لكني أجده أفضل لو تدفقت فيه، ومنحته مساحة أكبر، وفي كل الأحوال الكتابة تغتني بالتأمل وإمعان النظر في التفاصيل بعض الأحيان. رواية المنهوبة - بدأت نصك بحميمية ، وكأن سلمان يقدم رشوة للقارئ بجاذبية النص وهو يتحدث عن ( لعبة المجرور) لكنك سرعان ما تخليت عن هذه الجاذبية .وذهبت الى شغفك الغرائبي ؟ = سلمان شخصية كادحة كما يصفها العمل، يعمل من الصباح حتى أول المساء ويقابل في شغله اليومي الكثير من الركاب الذين يقلهم بعربته، ويستمع لحكاياتهم، ويصغي لهمومهم، وهذا المسعى الحميمي مع الناس فتح له أبواباً كثيرة في التعايش الإنساني مع الكل، وطبيعي أن يكون أكثر قرباً من الفن الشعبي في منطقته، وأشهرها المجرور الذي يقوم على جهد جماعي في الرقص والغناء، ولابد من وضعه في هذا الأفق، وإلا فقد الكثير من قوته في العمل. أما جبر فهو شخصية معقدة وذات عمق فلسفي نوعاً ما، إذاً هما مختلفان في شكل واضح، وجاذبية كل منهما تختلف عن الأخرى. - إحدى الرسائل كان تحمل تاريخ 1428 ، إعلان هذا التاريخ في اعتقادي لم يكن ايجابياً وأطاح بزمن متخيل عن تاريخها . لأنه يجعل القارئ يتساءل عن جدوى الرسائل في زمن المسجات والايميلات . بمعنى وبهذا التاريخ كان الأجدى استخدام البدائل الالكترونية . وهو رتم تواصلي مناسب لحالة (منازل ) التي لا تغادر المنزل . = لو قلت ( يجعلني أتساءل عن جدوى الرسائل.. إلخ ) سأتفهم وجهة نظرك، أفضل أن تدع للقارئ الحديث عندما يقرأ الكتاب، لكني سأوضح معلومة غابت عن فطنتك المعهودة، كان جبر يرفض استخدام التقنية الحديثة في بعث رسائله لمنازل، وبرر ذلك بقوله إنه يحب استخدام الأدوات التقليدية في الكتابة، ربما ليتوارى خلف قلم الشخص الذي استخدمه لكتابة رسائله، أقصد سلمان. - مابين لغة الرسائل ولغة السرد تفاوت .. في الرسائل شعرت أن اللغة ابسط وغير جانحة لإحداث دهشة القارئ بقدر ماكانت تكشف عمق الحكاية ، كانت تحمل خفة ما . هل تعمدت تقديم هذا التباين على مستوى اللغة ؟ = هذا التفاوت طبيعي، وإن كنت لحظت ذلك، فهذا جيد، الرسالة في شكل عام تحتفي بموضوعها، أما في السرد خارج قوس الرسالة فإن زوايا الكتابة تتعدد وتحتفي بهذا التعدد، إن حدث. - ما بين منازل وجبر الحالم حكاية حب ..وحكاية أخرى من المرض النفسي لدى جبر . لكن هذا الحب بدا ضئيلا ومحدودا ..كأنك انساقت وراء شتات الحكايات في النص وأهملت الحكاية الأهم في الرواية . القارئ كان يحتاج حبكة عاطفية تجعله رهين هذا التضاد في شخصية جبر . لكن الأمر لم يكن كذلك ؟ = جبر كما في الرواية كان يحب منازل، أو هو يدعي حبها، لكنه حب يخصه وحده، لذلك بدا حبه منتهياً، أي حب من طرف واحد يفقد الرهان على علاقة مكتملة وفاعلة، وقد يخلق نهاية يتجاوز خطرها ذات المحب، وهذا ما حدث لمنازل في حادثة الاغتصاب، ولو قرأت شخصية جبر في العمل لوجدت أن الأعمال التي قام بها كلها مشوهة، وأيضاً غير مكتملة، حتى في علاقته مع الطيور كانت غايته في البداية أن يصبح تاجراً، والتحول الذي مر به لاحقاً لم يطهره تماماً، لكنه في اعتدائه على منازل شذ عن المعتاد منه، وأدى عملاً مكتملاً، وكان مأثرته الوحيدة التي تركها خلفه، يقودنا ذلك إلى استنتاج أن جبراً لم يكن الشخص الذي ينتظر منه القارئ حبكة عاطفية، وبذلك تكون قصة حبه فقدت ميزة الحكاية الأهم بحسب كلامك، لكن دعني أوضح للقارئ أنني لا أوافق على ما تسميه الانسياق وراء شتات الحكايات في العمل، هذا الرأي لا يسنده شيء في الرواية، حتى الروافد الصغيرة التي تأتي من الهامش كانت مهمة لكونها تفتح كوىً صغيرة هنا وهناك لإضاءة المسرب العام للحكاية. - منذ زمن كان هناك سفاح في صنعاء يقتل النساء وعندما تمت محاكمته برر فعلته بأن الجميلات لا يستحققن الحياة ، وكذلك في رواية العطر كان البطل يقتات على روائح الجميلات بقتلهن . عايش أيضا كان مأزقه المرأة الجميلة . لكن هذا المأزق وجدتك تمرره بسرعة متناهية ، لم يتم التروي في سرده .بدا خاطفا , هل توافقني في هذا الأمر ؟ = أنا أفهم أنه انجذب لمنازل، لأنها تشبه أمه الجميلة كما قال، لكنه في مكان آخر من الرواية كان ينظر لها بشهوانية عندما رآها للمرة الأولى في السوق، وفي سطور لاحقة وصف بأوصاف أخرى، وهذا ربما يكشف جانباً من شخصيته المعقدة، أو ربما يجوز لي أن أسميها المشوهة، لم أسرده كما يفترض، ربما، لكن مرة أخرى لم يكن الحب فكرة أساسية عند جبر، هذا إذا أردنا أن نتتبعه في العمل كله، كان هو كشخص لديه مشكلاته وأفكاره محل اهتمام في العمل أكثر مما يفصح عنه هذا الجانب فقط. - المنهوبة عنوان موفق جدا لأنه يحفظ ويلفت الانتباه. لكن لم أجد منهوبة في النص. حتى وان كانت هناك رموز تفسر هذا العنوان . لكن هذا التفسير قد يجعل الرواية تأخذ منحى نكوصياً . سأفترض أن العنوان تسويقي لا أكثر .. أليس كذلك ؟ = حرصت عند اختياري هذا العنوان أن يكون أكثر شمولية في تعبيره عن ثيمة النهب في شكل عام، بعضنا يفهم النهب على أنه فقط انتزاع أملاك الغير بالقوة، ومن دون أي اعتبار للطرف الذي وقع في حقه النهب، لكن النهب يأخذ أشكالاً كثيرة، هناك انتهاب العِرض، كما فعل جبر، وهناك نهب للبراءة في الأشياء، ونهب للكرامة الإنسانية، ونهب لحرية التعبير عن الرأي، وقد ينهب موظف كبير من منطقة معينة حق منطقة أخرى في مشاركته صنع القرار، وغير ذلك من أشكال النهب التي تحدث في الواقع بين الإنسان وشريكه في الحياة والعيش، إما عن طريق النظام أو من دونه. - إذا كنا رصدنا في رواية الحمامة انقلاباً على السلام الذي يمنحه الحمام ، وفي رواية حسين محروس ( حوّام ) مطابقة بين عالم الحمام وعالم الإنسان . نجدك تستحضر الحمام ولكن اخذ هذا الحضور في صيغة التغني والتوله -لم تكن هناك حالة درامية - هل اكتفيت من حضور الحمام في روايتك بتغني وتوله جبر بهذا العالم ؟ = في الرواية، أخذ سوق الطيور مساحة كبيرة، لكن الحركة الأكثر كانت لطيور الحمام في هذا السوق، وقد شغلت أماكن عدة في المشهد العام، فهناك سوق الحمام وباعته وزبائنه ورواده، وهناك سوق شلة (وخروا عنا ) وهم مجموعة من التجار لهم نفوذ قوي في السوق ولهم تأثير كبير، ومنهم مرزوق أبو ريال والد جبر كما في الرواية، وفي حيز أضيق وأكثر تركيزاً هناك حَمَام جبر، وقد امتدت في هذا الحيز بالتحديد مساحة حملت صوراً مكثفة تحكي علاقة جبر بالطيور في شكل عام، وطيور الحمام في شكل خاص، وكيف تفجرت بين عالمه المعقد المحبوس في داخله، وعالم الطيور الشفيف حالات من المد والجزر كشفت عن جوانب مهمة من شخصيته، ويبدو أن مرورك على هذه المشاهد كان سريعاً، ولو قرأت ما يتعلق بجبر من الصفحة ( 162 ) إلى الصفحة ( 172 ) على سبيل المثال، وأضفت إليها ما بين صفحة ( 178 ) و صفحة ( 188 ) لو قرأتها بقصد أن تقترب أكثر من الصفحات الخفية المرتبطة بشخصية جبر لربما غيرت رأيك. أقول ذلك من وجهة نظري، طبعاً، ولك أن تقول ما تعتقد أنه أقرب إلى تصورك. - وأنت تغامر في النص بكتابة مقاطع تثير اشمئزاز القارئ وتحديدا في حكاية جمع القشور . ألم تخشى أن يؤثر هذا الأمر على قبول القارئ بالنص ؟ = القارئ الذي يصل إلى هذه الدرجة من ردة الفعل، سيكمل النص بالتأكيد، وقد تسلمه القراءة في النهاية إلى شعور بالارتياح، وقد يأتيه هذا الشعور ليس من كون القشور مادة تثير الاشمئزاز وإنما من جهة استخدامها كما جاء في الرواية، وهذا انفعال قارئ بنص، ما يعني أن القراءة تجاوزت نقطة العودة، أو التوقف عن القراءة. هذا بحد ذاته شيء جيد. - اختيار جبر للانتحار غرقا - ماهي دلالته .. هل هو في تصورك الحل المناسب لرجل مأزوم مثل جبر ؟ = إذا نظرنا لهذا القرار كشيء مقطوع بصحته عندما تحدث جبر عن نهايته، فهذا متروك للقارئ ولدارس النص، لكن هناك من القراء من تريث في هذا الأمر، متسائلاً: كيف يمكن لنا التأكد من هذا الشيء والفصول الخاصة بجبر تطرح الكثير من الشكوك في حادثة اختفائه؟ أنا ككاتب، لا أغامر برد شكوك هذا النوع من القراء، وفي الوقت نفسه أقدر وجهة نظر من رأى غير ذلك.