لئن حظيت الفتاوى الدينيّة التي تخالف العقل بقدر من نقد أهل العقل، ومن سخريتهم، فإنّ الاكتراث ب «الفتاوى» السياسيّة التي تجافي العقل لا يزال يقلّ عن المطلوب. فمن دون العقل، لا سياسة ولا وطنيّة ولا قضيّة يُحسب لها حساب. الانتصار ينقلب هزيمة والهزيمة تغدو مستقبلاً محكم الإقفال. ذاك أنّ تهافت العقل هو، في الأفكار، ما يعادل تهافت السياسة والدولة والاجتماع في الواقع. وجه الخطر المباشر أنّ الموقف السياسيّ غير العقلانيّ، مثله مثل الموقف الدينيّ غير العقلانيّ، يؤثّر في حياة الناس وفي موتهم. فإذا كان الموقف السياسيّ صادراً عن منصّة سلطويّة كان تأثيره السلبيّ والتخريبيّ أكبر. والأمر، مثلاً، كان ليهون لو أنّ محمود أحمدي نجاد شاعر أو فنّان أو غريب أطوار من نوع ما. أمّا أن الرجل رئيس على عشرات ملايين الناس في بقعة جغرافيّة لها حساسيّة إيران وأهميّتها وثروتها، فذاك يجعله شأناً آخر. لقد نقلت وكالة أنباء الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة أنّ أحمدي نجاد وصف هجمات 11 أيلول (سبتمبر) بأنّها «كذبة كبرى» استُخدمت لشنّ «الحرب على الارهاب»، أمّا تدمير البرجين ف «سيناريو استخباراتيّ معقّد». ولمّا كان اتّحاد الكتّاب السوريّين اتّحاداً رسميّاً، اندرجت في الخانة نفسها انتقادات رسميّيه لجائزتي نجيب محفوظ و»بوكر» ب... الصهيونيّة!. وهذه قد لا تكون في فداحة أختها النجاديّة، إلاّ أنّها، هي الأخرى، فادحة بما يكفي، خصوصاً أنّها صادرة عن بعض الرعاة المفترضين للعقل العامّ. بطبيعة الحال فإنّ «حججاً» من هذا النوع تحمل في طيّاتها انتهازيّة بعض قائليها، وحسد بعضهم، وأغراضاً أخرى. إلاّ أنّها تتحوّل اليوم منظومة «فكريّة» وظيفيّة في مناوأتها للعقل، منظومةً لا نلقاها مجمّعة ومتماسكة كما في جبهة القوى الممانعة. فإذا ما أعوزتها «البراهين»، هبّ العقيد معمّر القذّافي لإنجادها من ليبيا. لا يعني ذلك أنّ الجبهة المذكورة تحتكر اللاعقل. أمّا في المجتمعات والدول العربيّة الأخرى فيبقى اللاعقل، وهو متوافر بكثرة، أقرب إلى إنتاج مجتمعيّ تتردّد الدولة في تزكيته أو تمتنع عن ذلك. وأغلب الظنّ أنّ الأمر ليس صدفة. ذاك أنّ ما تدعونا الممانعة إلى تصديقه والأخذ به يستدعي تحطّم العقل على نحو كامل. وهذه بعض الحجج التي تندرج في إطار كهذا: - إنّ إيران مجتمع متقدّم ومكتف ذاتيّاً وقادر على مجابهة ظافرة مع الولايات المتّحدة، بل راغب في ذلك. - إنّ ما من معارضة فعليّة في طهران، بل هناك شلل متأثّرة بالغرب ودعاياته ودسائسه. - إنّ سوريّة لا تزال، على رغم السكون الممتدّ منذ 1974، على جبهة الجولان المحتلّ، قلب حركة التصدّي لإسرائيل وأطماع إسرائيل. - إن الولايات المتّحدة جعلت العراق، بين ليلة وضحاها، بلداً شديد الطائفيّة. - إنّنا، في لبنان وغزّة، أحرزنا انتصارات غير مسبوقة. - إنّ ازدواج السلاح بين الدولة اللبنانيّة وحركة دينيّة مسلّحة هو الأمر الطبيعيّ الذي لا يرقى الشكّ إلى طبيعيّته. - إنّنا بالحرب والتدمير المتواصلين نفتح الباب للتفتّح الشامل. - إنّ الانقطاع عن العالم بحجّة مكافحة «التطبيع الثقافيّ» و»الغزو الثقافيّ» هو الخير، كلّ الخير، لنا ولمستقبلنا وعقولنا. - إنّ العقيد معمّر القذّافي ليس حاكم ليبيا، بل هي جماهيريّة لا تحكمها إلاّ... الجماهير. هذه «حجج» تخاطب عقل فيل. ولأنّ قضيّتها صعبة على الهضم والتصديق، صار المطلوب جعل عقول السكّان في هذه المجتمعات أشبه بعقول فيلة. إنّهم بحاجة إلى تكبير الكذب، ونحن مطالَبون، من قبلهم، بتصغير العقل. ضعوا في أيدي هؤلاء قنبلة نوويّة وخذوا ما يدهش العالم.