تستعرض الجمعيّات العموميّة للأمم المتّحدة زعماء العالم، وكثيراً ما تقدّم المناسبة السنويّة فرصة لمشاهدة زعماء غرائبيّين، إكزوتيكيّين، يتحدّثون من أعلى منصّات الكون. و»الفرجة» هذه تقلب بعض الموازين المتعارَف عليها فتظهر الأحجام على غير ما هي حقّاً. ذاك أن الطاووسيّة والعنجهيّة لا يتّصف بهما حكّام البلدان القويّة، لا سيّما حين يكون أقواهم كمثل باراك أوباما، داعية للانسحاب من المواجهات وللانطلاق في عمليّة نزع السلاح النوويّ. وغالباً ما يحتكر تلك الصفات الزعماء الغرائبيّون الذين يسوسون بلداناً ضعيفة، أو في أحسن الأحوال معتدلة القوّة، فنكون إذّاك حيال زعماء أقوى من بلدانهم ودولهم. وهذا ما يتيح أن الأمر كلام وخطابة لا يقوم عليهما دليل فوريّ. وفي هذا يتساوى الجميع عرضاً للعضلات وإطلاقاً للتهديدات ما دامت لغات الأرض كلّها قد حفلت، وتحفل، بالمعاني «الرجّاليّة» هذه. فإذا ما أضيف اللباس الإثنيّ الملوّن والمبهرج والعادات الغرائبيّة، كنصب الخيم في قلب المتروبولات الكبرى، غدا الاستعراض كاملاً يقرن المضمون بالشكل الذي يشبهه. ولنقل إن هذه الغرائبيّة التي عُرف بها قادة من «العالم الثالث» ليست مجرّد أهواء بسيكولوجيّة خاصّة بأصحابها. فالأكثر ترجيحاً أنّها ذات أساس موضوعيّ، وأن الأساس هذا هو تحديداً ما أتاح لأصحاب الأهواء أن يغدوا زعماء. فالزعيم الغرائبيّ هو الذي يحكم وطناً ما من دون أن يملك مطلق تقليد في الحاكميّة والسياسة. وهو، في الغالب، قائد بلد استقلّ قبل عقود قليلة لكنّ الانقلابات العسكريّة قطعت الطريق على أيّ تراكم سياسيّ يحقّقه، أو أن الاستبداد عطّل فيه السياسة والتقاليد أصلاً. هكذا يصرّ الزعيم الغرائبيّ على «تغيير الموضوع» لأنّه لا يجيد الموضوع أصلاً. ولأن «تغيير الموضوع»، أكان عبر تمزيق ميثاق الأمم المتّحدة أو إنكار المحرقة اليهوديّة أو غير ذلك، فيه شيء من «كسر مزراب العين»، تجد الغرائبيّة دائماً ما يجعلها، هي نفسها، موضوعاً. ومن يمسي، بكلامه أو بسلوكه أو بمظهره، موضوعاً، حتّى لو من باب السخرية والتندّر، تكون الأنا التي تقيم في صدره من صنف طاووسيّ. ونزعة كهذه لا تجد إلاّ ما يعزّزها في نيابة الحاكم عن الملايين من محكوميه، وفي النطق بلسانهم، هم أصحاب الألسنة المشلولة. ويكون طبيعيّاً، والحال على هذا النحو، أن يُدفع الخطأ إلى سويّة هذيانيّة. فالحاكم الغرائبيّ غير معنيّ بما إذا كان قوله صائباً أو خاطئاً، مقنعاً أو عديم الإقناع، جالباً التصفيق أم جالباً الضحك. فهو أصلاً يقف خارج ما يتواضع عليه العقل والعرف والديبلوماسيّة، كما لا تنعكس على سلطته اعتبارات العقل والعرف والديبلوماسيّة. أمّا إذا ما صدف أن واجهه إحراج، وهو عادة لا يُحرَج، ردّ بالغرْف من ثقافة شعبويّة سهلة، كارهة الغرب، مطالبة بالمساواة من دون التساوي في الواجبات. وعند ذاك يجد الزعيم الغرائبيّ «تقدّميّين» يجدون له الأعذار لأنّه مظلوم ابن مظلومين، فيما رأس الحيّة لا يقيم إلا في البيت الأبيض. ويأتي «الصواب السياسيّ»، بوصفه أقصر الطرق إلى الجهل، ليحرّم كلّ ربط بين هذه الغرائبيّة وبين المحيط الثقافيّ الأعرض الذي تتمثّل به. وهذه غرائبيّة من نوع آخر...