أدى تحذير رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراغي مطلع الشهر الماضي المضاربين الماليين الدوليين، وتنبيههم إلى مغبة المراهنة على استغلال العجز المالي لعدد من الدول الأوروبية، إلى نتائج إيجابية فورية، تمثّلت في خفض الفائدة في شكل طفيف على سندات إيطاليا وإسبانيا، وإعادة الانتعاش النسبي إلى الأسواق المالية والدولية. وأعلن دراغي في شكل لا لبس فيه في حينه، أن «اليورو سيبقى، والبنك المركزي سيدافع عنه بكل ما يملك من إمكانات». وكانت النتيجة المباشرة لموقف دراغي المثير للجدل بين ألمانيا ومَن يدعمها من جهة، وبين فرنسا وإيطاليا وإسبانيا ومَن يدعمها من جهة أخرى، كما بين خبراء الاقتصاد والمال في أوروبا، أن هدأ التوتر في الأسواق المالية، من دون أن يضطر البنك المركزي إلى التدخل فعلياً حتى الآن. وارتفع سعر اليورو على الأثر بعض الشيء، كما نهض مؤشر «داكس» الألماني من كبوته وقفز في اتجاه ال 7000 نقطة بعد انتكاسة أوصلته إلى 6250 نقطة تقريباً. وعلى رغم ذلك، توقع خبراء كثر «ألا يستمر الهدوء المستجد طويلاً في حال شعر المضاربون بعدم تحوّل تحذير دراغي إلى أفعال في حال ساءت الأحوال المالية لإيطاليا وإسبانيا واليونان أكثر مما هي عليه اليوم، وفي حال تأكد لهم عجز أوروبا عن إيجاد حلّ لأزمة اليورو مطلع فصل الخريف. وكان البنك المركزي الأوروبي أشار في هذا الصدد «إلى أن أي استئناف لخطة شراء السندات لن يكون قبل الشهر الجاري، كما لن تحصل خطوة مماثلة إلا إذا طلبت الحكومات المعنية مساعدة رسمية من صندوقي الإنقاذ في منطقة اليورو». وثمة سببان لتحديد تاريخ أيلول أو فصل الخريف: الأول وجود أعضاء حكومات دول أوروبا وبرلماناتها في عطلة صيفية، والثاني اضطرار الجميع إلى انتظار القرار الفصل الذي ستتخذه المحكمة الدستورية العليا في ألمانيا منتصف هذا الشهر في عشرات الدعاوى ضد البنك المركزي الأوروبي ورئيسه، الذي أعلن الاستعداد للعودة إلى شراء سندات حكومية. في وقت يعتبر رافعو الدعاوى أن «مهمة البنك هي الحفاظ على الاستقرار المالي في منطقة اليورو ومحاربة التضخم». وفي خضم هذا الجدل اضطر البنك المركزي إلى اللجوء، كما أعلن، «إلى وسائل غير عادية» مع المصارف اليونانية لتأمين شراء سندات حكومية بقيمة أربعة بلايين يورو لتفادي إفلاس الدولة موقتاً. وتمكنت اليونان أخيراً من تسجيل ثاني إشارة إيجابية، بعدما حققت في الربع الثاني من السنة تراجعاً آخر في عجزها المالي مسجّلة عجزاً من 6.2 في المئة في مقابل 6.5 في المئة في الربع الأول و 7.5 في المئة في الربع الأخير من عام 2011. ولا يخفى أن المحور الألماني - الفرنسي تصدع أخيراً بسبب خلاف الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند مع المستشارة أنغيلا مركل، حول كيفية مواجهة أزمة العجز المالي في منطقة اليورو، ففي حين يشدد هولاند على أولوية «التضامن المالي المشترك» بين دول المنطقة، وإقرار برامج لدعم النمو للتغلب على الأزمة، تشدد مركل قبل كل شيء على نهج التقشف وإجراء إصلاحات داخلية. وبدورهم، انقسم الخبراء الأوروبيون حول الأولويات والحلول. وعلى رغم الاجتماع الذي عقده هولاند مع مركل قبل أيام في برلين، وأعقبه اجتماع بين رئيس الحكومة الإيطالية ومركل في العاصمة الألمانية أيضاً، يبقى واضحاً أن حركة التنسيق التي كانت معهودة بين برلين وباريس خفّت كثيراً لتنشط في المقابل الاتصالات والاجتماعات بين هولاند ورئيسي حكومتي إيطاليا وإسبانيا، في إطار محور ثلاثي جديد ضاغط على المستشارة الألمانية لتغيير نهجها الذي لا يراه كثر ناجعاً، بل يعتقدون أنه زاد في معاناة الدول المتعثرة وجعلها طريدة سهلة أمام المضاربين الماليين. ومن بين هؤلاء أيضاً أحزاب المعارضة اليسارية في البرلمان الألماني ومجموعة من الخبراء. وإذا كانت دول مثل هولندا وفنلندا تدعم في المقابل منحى الحكومة الألمانية المتشدد، إلا أن وزنها الاقتصادي والسياسي محدود في منطقة اليورو. وللموقف الفرنسي الداعم للاتجاه المعاكس لمركل دوافع ذاتية بالطبع. صحيح أن فرنسا لم تتعثر مالياً بعد، كما حصل مع إيطاليا وإسبانيا، لكن ينظر خبراء كثر إليها منذ فترة طويلة على أنها مرشحة للتعثّر وللوقوع في عجز مالي، بعدما سجّل اقتصادها جموداً في نموه (أي صفراً) في الربع الثاني، في مقابل ضمور مقلق في الاقتصاد الإيطالي نسبته 0.4 في المئة والإسباني 0.7 في المئة. ورأى عدد غير قليل من الخبراء أيضاً، أن على ألمانيا عدم الاطمئنان كثيراً إلى وضعها الاقتصادي والمالي الجيد، أو أن تعتبر أنها بعيدة من تداعيات الأزمة التي يمكن أن تطول سنوات. وإذا صحت المؤشرات الاقتصادية الأخيرة التي تتحدث عن بدء انخفاض نسبة النمو في ألمانيا في الربعين الثالث والرابع من السنة إلى الصفر، ستضعف عند ذلك مواقفها المتشددة وتصبح أكثر استعداداً للمساومة.