تمكنت طهران من اجتياز امتحان قمة عدم الانحياز بنجاح. توقع الكثيرون ألا يُعقد المؤتمر إطلاقاً وأن يضطر المسؤولون الإيرانيون إلى إعلان تأجيله تخوفاً من مقاطعة واسعة له. وتوقع البعض أن يكون عدد الحضور ضئيلاً إلى درجة تحوله إلى فضيحة ديبلوماسية لطهران ونكسة سياسية تعود على الحكومة الإيرانية بالضرر. وتوقع البعض الآخر أن يكون مستوى الحضور مؤشراً إلى عزلة طهران. هذه التوقعات لم تتحقق، فعُقد المؤتمر وحضره عدد معقول من الدول الأعضاء المئة والعشرين، أما مستوى الحضور فلم يتحول إلى فضيحة مدوية كما قالت التوقعات. ولكن هذه المؤشرات لا تدل على أن طهران نجحت في امتحان عقد القمة بتفوق وبعلامات عالية. إنها تدل على أن الكثيرين من الذين شاركوا في المؤتمر، مثل بان كي مون، الأمين العالم للأمم المتحدة ومحمد مرسي، رئيس الجمهورية المصري، حضروا المؤتمر باعتباره قمة عدم الانحياز ولم يشتركوا فيه باعتباره مؤتمراً إيرانياً تعقده طهران لفك الحصارات السياسية والاقتصادية المضروبة عليها. تمكنت طهران من التعامل مع التحدي الأصغر، أي عقد مؤتمر قمة عدم الانحياز، بنجاح، فهل تستطيع التعامل مع التحدي الأكبر، أي "الاستفادة من رئاستها لمدة ثلاث سنوات للحركة لجعلها أكثر فاعلية"، كما جاء في تصريح لرامين مهمان برست، الناطق بلسان الخارجية الإيرانية؟ وهل تستطيع طهران خلال هذه السنوات تقديم نموذج عملي لكيفية قيادة حركة عدم الانحياز من طريق "حماية مصالح الدول المستقلة المهددة من قبل الدول الكبرى" كما جاء في التصريح نفسه؟ من يدرس هذا التصريح والبيانات والوثائق الإعدادية للمؤتمر بدقة، يرجح ألا تتمكن طهران من تحقيق مثل هذه الاستفادة. فهذه الوثائق والبيانات تدل على أن طهران لا تتابع المتغيرات الدولية - وهذا مستبعد - أو أنها تتجاهلها لسبب غير واضح - وهذا هو الأرجح. فالخارجية الإيرانية التي اضطلعت بدور رئيسي في تنظيم مؤتمر طهران، ترتكب خطأ، على سبيل المثل لا الحصر، عندما تضع سائر القوى الكبرى في سلة واحدة. وهذا التقويم ليس صحيحاً، خصوصاً في أيامنا هذه. ومنبع هذا الخطأ هو النظرة السكونية إلى تجربة حركة عدم الانحياز، والتخلف عن القيام بمراجعة هذه التجربة في ضوء المتغيرات المهمة التي شهدها العالم منذ ذلك التاريخ. ولكن، ما هي هذه المتغيرات وما هي فائدة الإشارة إلى تغيير هيكلية الأممالمتحدة التي جاءت في الوثائق التحضيرية للمؤتمر إذا لم تعرض هذه الوثائق للنقائص الكامنة في النظام الدولي والإصلاحات المرجوة لهذا النظام؟ تمر الأسرة الدولية اليوم بمتغيرات بالغة الخطورة والتعقيد، وبوتائر متسارعة تتجاوز أحياناً قدرة أصحاب الرأي والقرار على اللحاق بها وإدراك معانيها وآفاقها. كانت الأسرة الدولية تنقسم إلى عوالم ثلاثة، وبموازاة هذا الانقسام، كان النظام الدولي ينقسم أيضاً إلى ثلاث كتل رئيسة أي الكتلة الاشتراكية وكتلة عدم الانحياز والعالم الحر. واستمر هذا الانقسام لسنوات بحيث أصبح يبرمج المقاربات للعلاقات الدولية ويؤطرها، ويغيب عن الأذهان المتغيرات التي كانت تطرأ على الأسرة والنظام الدوليين. ولكن العالم اليوم يختلف اختلافاً كبيراً عن عالم الأمس. في مغايرة لهذه النظرة يعتبر ريتشارد فولك، أستاذ القانون الدولي في جامعة برنستون الأميركية، أن النظام الدولي القديم هو مجرد نظام دولي ناقص الاتحاد السوفياتي. ولا ريب أن زوال الاتحاد السوفياتي، وانهيار التكتل الاشتراكي كان زلزالاً كبيراً في العلاقات الدولية، وأنه أدى إلى تداعيات خطيرة في كل ركن من أركان المجتمع الدولي. يكفي أن نقارن بين أحوال دول أوروبا الشرقية كدول أعضاء في حلف وارسو وبين انتقال البعض منها وتحوله إلى عضو فاعل وصقوري في الحلف الأطلسي لكي ندرك عمق التغييرات التي طرأت على العالمين الأول والثاني. لم تقتصر المتغيرات في العالم الأول على ما حل بدول أوروبا الشرقية، ولكنها شملت أيضاً الفضاء الأوروبي بأسره. بعض هذه المتغيرات تمثل في انحسار الديغولية وانتقال زعامة اليمين الأوروبي من الديغوليين المتعاطفين مع فكرة التعددية الدولية إلى اليمين المؤيد للأحادية الأطلسية. كذلك شملت هذه المتغيرات تحولات طرأت على الطبقة العاملة وأحزاب اليسار. ذلك أن التمايزات تعمقت داخل الطبقة العاملة بين شرائحها المختلفة خصوصاً بين "ذوي الياقات البيض - الذين زادت أعدادهم - وذوي الياقات الزرق - الذين ضمر عددهم وتراجع نفوذهم داخل النقابات والأحزاب". وفي ظل هذا المتغير الأخير بدت "البليرية" وكأنها المعبر الواقعي عنه. لقد ذهب توني بلير وتحول إلى رمز للانتهازية والسقوط الأخلاقي عند الكثيرين في بريطانيا وفي اليسار الأوروبي. ولكن "البليرية" لا تزال قوية في أوروبا وهي تشكل حليفاً قوياً لليمين الأحادي الأطلسي في أوروبا. أما العالم الثالث فقد شهد تمايزات ومتغيرات مماثلة. فبعد النخب الوطنية التي قادت دول هذا الجزء من المجتمع الدولي إلى الاستقلال، طفت على جوانبها نخب جديدة أو تحول البعض منها إلى نخب حاكمة مارست الاستبداد والفساد والتبعية. فلقد حل الجنرال سوهارتو - مثلاً - محل أحمد سوكارنو الذي حرر بلاده من الاستعمار. مارس الجنرال سوهارتو القمع الشديد ضد المعارضين وتسبب في إبادة ما لا يقل عن نصف مليون من الإندونيسيين واستولى هو وعائلته على ما يقارب الأربعين بليوناً من الدولارات. إلى جانب هذه النخب التي انحدرت بالمعايير الأخلاقية والوطنية والديموقراطية، ظهرت نخب جديدة تمسكت بالمصالح الإنسانية والوطنية وعملت على تحقيق التنمية السريعة والمستدامة في بلادها فحولتها في وقت قصير نسبياً إلى قوى عملاقة، كما هي الصين والهند والبرازيل اليوم. لقد أدت هذه المتغيرات إلى تبدل عميق في موازين القوى العالمية. فحركة عدم الانحياز خرجت إلى الوجود يوم كان حكام العالم الثالث قادرين على الإفادة من التناقض والتوازن بين المعسكرين الدوليين حتى يحافظوا على استقلال بلادهم ويخففوا من ضغط القوى العظمى على هذه البلاد. أما اليوم فكيف يتمكن حكام إيران الذين سيقودون حركة عدم الانحياز من مقاومة "الاستكبار العالمي" وفي الوقت نفسه من حماية الدول الصغيرة من القوى الكبرى؟ وكيف تتمكن إيران التي تعاني من الحصار ومن التهديدات الدولية من اجتراح التدابير لحماية الدول الضعيفة؟ قبل هذا وذاك هل يصح أن تضع حركة عدم الانحياز سائر القوى الكبرى في سلة واحدة؟ هل يصح أن تساوي هذه الحركة بين الهند وبين القوى الأوروبية التي مارست الاستعمار وشنت الحروب على الشعوب الصغيرة؟ هل تملك إيران أن تساوي بين الصين - التي تعتبر أكبر مستورد للنفط الإيراني - وبين الولاياتالمتحدة؟ لعل الفائدة الحقيقية التي تحققها طهران من سنوات رئاسة حركة عدم الانحياز هي مساعدتها على التخفيف من آثار الحصار ونظام العقوبات عليها، أي بتعبير آخر، أن إيران هي التي ستستفيد من الرئاسة وليس العكس، إذ إنه في وضعها الراهن ليس في إمكان طهران أن تقدم الكثير للحركة ولأعضائها. والفائدة التي ستجنيها إيران من حركة عدم الانحياز هي فائدة محدودة نظراً إلى طبيعة المنظمة الفضفاضة وكثرة التناقضات فيها. أما إذا أرادت طهران أن تضعف فعلاً الحصار المضروب حولها، فعليها أن تبدأ بتسوية علاقاتها مع الدول المجاورة، وفي مقدمها الدول العربية. تستطيع طهران أن تخطو خطوات في هذا الاتجاه إذا قدمت أدلة ملموسة على أنها لم تعد تنظر إلى الدول العربية نظرتها إلى "مدى حيوي" لها. ستخدم إيران نفسها والعرب معاً إذا اقتنعت بأنه إلى الغرب من أراضيها لا يوجد شرق أوسط تقطنه شعوب بلا هوية وتتزعمه إيران، بل يوجد إقليم عربي يقطنه العرب الذين يحرصون على استقلالهم وعلى استمرار نظامهم الإقليمي الخاص بهم وعلى النهوض به حتى يحقق الأهداف التنموية والاستراتيجية والسياسية المرجوة. كذلك تستطيع طهران أن تخطو خطوات مهمة في هذا الاتجاه إذا تعاونت مع الدول العربية تعاوناً صادقاً وبناء على إيقاف حروب ومعارك الاستنزاف المذهبية التي تشن هنا وهناك. وإذا شاءت إيران تطوير التعاون مع العرب في إطارات مؤسسية وإقليمية فأمامها فرصة واسعة لتحقيق هذه الغاية تتمثل في تطوير "منظمة التعاون الاقتصادي" التي تتخذ من طهران مركزاً لها والتي تضمها مع تركيا وباكستان وأفغانستان وجمهوريات آسيا الوسطى، كما تتمثل في تطوير العلاقات بين هذه المنظمة من جهة، وبين مؤسسات العمل العربي المشترك من جهة أخرى. إن هذه الصيغة هي الأفضل لتأكيد مكانة إيرانالإقليمية واحترامها وحرصها على استقلال العرب ومصالحهم، وهي صيغة تعزز مكانة إيران في حركة عدم الانحياز وتضفي على دورها فيها صدقية وتساعدها على إكساب هذه الحركة الفاعلية المطلوبة. * كاتب لبناني