«إن تنيسون شاعر عظيم لأسباب غاية في الوضوح، فهو يمتلك ثلاث صفات قلما تجتمع إلا في اعظم الشعراء: الغزارة والتنوع والإحكام الكامل. وهذا هو السبب في اننا لا نستطيع تذوّق انتاجه إلا بعد قراءة قدر كبير منه. قد لا تعجبنا اهدافه ولكنه ينجح في أداء كل ما رسم لنفسه ان يؤدّيه بأستاذية تبعث فينا شعوراً بالثقة هو من اكبر مباهج الشعر». قائل هذا الكلام عن الشاعر الإنكليزي الكبير البارون ألفريد تنيسون، هو ت. إس. إليوت، الذي كان يعرف حقاً عمّاذا يتكلم. فإذا كان إليوت اشتهر في القرن العشرين بشعره ومسرحياته ومواقفه السياسية والفكرية، فإن شهرته قامت ايضاً، وخصوصاً، على كونه واحداً من كبار النقاد الذين ظهروا في ذلك القرن. وتشهد على هذا، بالطبع، تلك المجلدات الثلاثة التي ترجمها، بمستوى رفيع، الأديب المصري ماهر شفيق فريد، بتصدير من الكاتب والناقد جابر عصفور، لتضم معظم كتابات إليوت النقدية وصدرت خلال السنوات الماضية عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر، يوم وصلت نشاطات هذا المجلس الى ذروة إبداعية ثمة اليوم كثير من الشك في امكانية استعادتها او حتى الدنوّ منها نظراً للجديد المصري الذي يبدو انه تلى وأد ما كان يسمّى ب «الربيع العربي»، غير ان هذه حكاية ليس هنا مكانها طبعاً. وفي عودة الى موضوعنا، لا بد من الإشارة هنا الى انه إذا كانت المناسبة التي تحدث فيها إليوت عن تنيسون في واحد من فصول الكتاب، هي حديثه عن واحدة من اجمل قصائد تنيسون وهي قصيدة «للذكرى» التي كتبها رثاء لصديقه أ ه هالان، فإن هذا الكلام نفسه ينطبق على قصيدة اخرى لتنيسون، هي واحدة من اروع ما كتب من شعر بالإنكليزية في اواسط القرن التاسع عشر: «اينوخ آردن»، تلك الملحمة الشعرية العاطفية التي كتبها تنيسون في العام 1864 مستوحياً إياها، في شكل موارب، من شخصية «يوليسيس»، علماً أنه كتب كذلك قصيدة معاصرة عن بطل الملحمة الإغريقية الشهير. اما «اينوخ آردن» فهي عصرنة، الى حد ما، للملحمة الإغريقية، لكنها في الوقت نفسه اطلالة على واحدة من اقسى حالات العيش المتواترة في مرافئ الصيد، في ذلك الزمن، حيث ان تنيسون ربط موضوع قصيدته بتلك المآسي التي تصيب الأزواج الذين يضطرهم طلب الرزق الى السفر (كبحارة او صيادين او حتى جنود) ثم يختفون فيخيّل الى آلهم انهم ماتوا فيواصلون حياتهم على هذا النحو، فإن عاد الواحد من الغائبين الى الوطن بعد ذلك، يعتبر شبحاً لا اكثر، كما سنرى. تروي لنا قصيدة «اينوخ آردن»، حكاية تبدأ احداثها في مرفأ صغير يقع عند الشاطئ الشرقي لإنكلترا. ففي مرفأ الصيادين، يعيش ثلاثة اطفال يترعرعون مع بعضهم بعضاً ويلعبون ساهين عن أعباء الحياة. انهم صبيّان وصبية: اينوخ آردن، فيليب راي وآني لي. وخلال ألعابهم الطفولية تكون دائماً آني زوجة لواحد من الصبيين، فهي حيناً «زوجة» اينوخ وحيناً زوجة فيليب. ومع مرور السنوات تتحول اللعبة الى حقيقة، إذ يتزوج اينوخ فعلاً من آني، اما فيليب الذي يعشق آني عشقاً حقيقياً، فإنه يرضى بالواقع حتى وإن كان وقع تحت تأثير ألم عميق سبّبه له تخلي آني عنه لمصلحة صديقه. ولكن سبعة اعوام تنقضي، والزوجان يعيشان في سعادة، والصديق في حسرة ذكرياته، حتى تبدأ الفاقة والمرض يضربان العائلة الصغيرة السعيدة، بعد ان اعتنت بأطفال انجبهما الزوجان. ويقرر إينوخ، لكي يتمكن من توفير حياة كريمة لأسرته الصغيرة وزوجته المحبوبة، الالتحاق كرئيس طاقم في مركب يمخر عباب البحر متوجّهاً الى الصين. وإذا كانت رحلة المركب تمّت بسهولة ومن دون مشكلات تذكر، خلال الذهاب، فإنه يغرق خلال العودة. وإذ يقتل كل من على المركب، يتمكن اينوخ من انقاذ نفسه ليصل الى جزيرة استوائية مهجورة، ويعيش هناك في وحدة مدهشة زمناً يتمكن بعده من العودة الى وطنه. لكنه ما ان يصل الى الوطن حتى تكون مفاجأة لم يحسب لها حساباً، في انتظاره: إذ يعلم ان آني، خلال غيابه وبعد ان يئست من عودته إذ خيّل إليها وإلى كل اهل القرية، ان اينوخ مات، تزوجت من فيليب. والحال ان فيليب، الطيّب دائماً، والمغرم دائماً بآني، كان يواصل تقديم المساعدة لها ولأطفالها، منذ تناهى إليهم خبر «موت» اينوخ، وهو بهذا أنقذ العائلة من الجوع والتشرد، قبل ان يجد ان الوقت قد حان للإقرار بموت اينوخ والاقتران بالحبيبة المترمّلة. وإذ يعلم اينوخ بهذا الواقع، ويجد نفسه، وعلى رغم عودته، ليس قادراً على ان يوفر لآني وللأطفال اي عيش رغيد يضاهي ما يوفره لهم فيليب، يقرر ان يخفي هويته وخبر رجوعه عن الجميع، بمن في ذلك اسرته. وهكذا يواصل حياته في القرية وقد اخفى هويته ولا يدري بعودته احد. ويعمل في الصيد عاملاً متواضعاً بين الصيادين، غريباً في موطنه. وتظل حاله على ذلك النحو قرابة العام. وفي النهاية حينما يجد نفسه مريضاً وعلى سرير الموت، يكشف لصاحب المنزل الذي يؤويه عن سره، ويفصح له عن هويته الحقيقية معلناً له انه اينوخ آردن، ابن القرية الذي كان خيّل إليهم جميعاً انه مات. ويرجو اينوخ صاحب المنزل ألا يكشف هذه الحقيقة امام آني والأطفال إلا بعد رحيله، طالباً منه ان يخبرهم انه، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، باركهم جميعاً، وأنه ظل يحبهم حتى نهايته وسيحبهم الى الأبد. ان هذه القصيدة التي يحفظها الناس جميعاً في انكلترا، كانت هي ما جعل إليوت يقول عن تنيسون، في اعجاب شديد، انه «سيد الوزن والكآبة في الشعر الإنكليزي» من دون منازع، كما حيّا فيه دائماً هذا النفس الملحمي. والحال ان هذه القصيدة التي اوحى لتنيسون بموضوعها صديقه الشاعر ادوارد فيتزجيرالد «مكتشف» رباعيات عمر الخيام ومترجمها الى الإنكليزية، تستقي موضوعتها الرئيسة كما اشرنا من تلك الحياة المغامرة الكأداء التي يعيشها بسطاء الصيادين والبحارة، إذ نجد تنيسون وقد ابدع ابداعاً استثنائياً في المقاطع التي يصف فيها تفاصيل تلك الحياة. اما الباحثون الذين انكبوا دائماً على تحليل «اينوخ آردن» ومعانيها، فإنهم اشاروا الى المعنى الأساسي للقصيدة والذي «نجده في الكثير من الآداب الأوروبية والآسيوية»: المعنى المتعلق بالزوج المنسي، الذي يتحول الى شبح حتى من دون ان يموت. وثمة، كما يرى هؤلاء، في الأساطير الساكسونية والبريتونية (نسبة الى بريتاني الفرنسية)، دائماً أساطير تتحدث عن بينيلوب، الزوجة الوحيدة والبائسة التي بعد ان تنتظر عودة زوجها الغائب، من دون جدوى، ينتهي بها الأمر عادة الى الزواج من غيره. ثم يحدث ان يعود الزوج مطالباً بحقه في زوجته وفي أسرته، إن كانت لهما اسرة. والحال ان تنيسون، هنا، قلب الأسطورة، ليجعل بطله اينوخ مستنكفاً عن المطالبة بأي شيء: لقد كان حسبه ان يرى ان زوجته وأبناءه يعيشون سعداء بعيدين من العوز. ومن الناحية الشكلية اثنى النقاد دائماً على هذه القصيدة متوقفين خصوصاً عند وصف تنيسون للفوارق بين الأماكن التي عاش فيها اينوخ في الجزيرة الاستوائية وبين رؤياه لوطنه الشمالي البارد. ونشير هنا، الى ان «اينوخ آردن» ألهمت كثراً من الكتاب والشعراء بعد تنيسون، بل إن مسرحيتين كتبتا، واحدة في لندن وأخرى في نيويورك مقتبستين عنها، كما ان الموسيقي ريتشارد شتراوس (1864 - 1965) كتب ميلودراما موسيقية رائعة مستوحاة من هذه القصيدة، اضافة الى استلهام السينمائي الأميركي غريفيث لها في احد اجمل افلامه الصامتة. ألفريد تنيسون (1809 - 1892) الذي كان باروناً حقيقياً، وشقيقاً لشاعرين كانا يقلاّن عنه مكانة، أولع بالشعر منذ صغره، هو الذي عاش حياة كئيبة إذ كان يعتقد على الدوام انه ورث عن ابيه، السكير والذي أنفق ثروة العائلة عن حمق، داء الصرع والكآبة الدائمة. ومن هنا طبعت هذه الكآبة حياته وأشعاره كلها، ولم تخفف من ذلك صداقاته الكثيرة مع كبار ادباء عصره وشعرائه، ولا كونه اختير شاعراً رسمياً للبلاط خلف لورد زورث، ولا كون اصدقائه، ومنهم فيتزجيرالد، لا يكفّون عن مده بالعون، المعنوي والمادي، كلما لمسوا لديه حاجة الى ذلك. كتب تنيسون الشعر والمسرح، والأدب في شكل عام، ومن بين اعماله الشهيرة، اضافة الى ما ذكرنا، «صوتان» و «حلم نساء عادلات» و «قصيدة في رثاء ولنغتون» و «اهل الغابة» و «الصقر» و «الملكة ماري»... وغير ذلك من اعمال ضمنت له مكانة كبيرة في الأدب الإنكليزي، علماً أن اعماله سرعان ما كانت تترجم الى لغات اخرى وتنتشر ويقبل عليها النقاد مادحين مرة وهاجين اخرى، وربما للأسباب نفسها. [email protected]