اشتهر الكاتب والشاعر الإنكليزي الفريد تنيسون، خصوصاً بقصيدته الطويلة «اينوك آردن» التي تعتبر عادة من أشهر القصائد التي كتبت في اللغة الإنكليزية. غير ان هناك قصيدة أخرى لتنيسون نفسه لا تقل عن «اينوك آردن» شهرة، حتى وإن كانت تقل عنها جمالاً، وربما تنبع شهرتها من خصوصية اكتنفتها وميزتها عن بقية القصائد الإنكليزية التي تنتمي الى الحقبة نفسها، اي الى القرن التاسع عشر، العصر الذي اشتهر على أية حال بكونه عصر النهضة الكبرى للشعر الرومانسي الإنكليزي. وهذه القصيدة هي «لوكسلي هال» التي تكمن خصوصيتها في ان الشاعر جعل لها تتمة كتبها بعدها بستين عاماً تقريباً وحملت بالتحديد عنواناً هو «لوكسلي هال بعد ستين عاماً». طبعاً لا يمكن اعتبار القصيدة الثانية تتمة للأولى، ولا هي نقضاً لها ولا أي شيء من هذا، كل ما في الأمر ان الشاب الذي كتب القصيدة الأولى حزيناً متحسراً خائب المسعى، سيعود الى التحدث عن المكان ذاته وعن الحنين ذاته، ولكن هذه المرة بحكمة شيخ يعيش أيامه الأخيرة ويراجع مواقفه من الكون والسماء والحياة والموت. والحال ان ما بين القصيدتين هو بالتحديد، ذلك الفارق بين يقين الشباب، ولو سلبياً، وتردد الشيوخ، بين ثورة الشباب ودعة الشيوخ. ولكأن القصيدة الأولى كتبها شاب موجهاً اياها الى الشيخ الذي سيكونه بعد ستين عاماً، والرسالة الثانية كتبها شيخ موجهاً اياها الى الشاب الحانق المتمرد الحزين الذي كانه هو نفسه قبل كل تلك السنوات. ومن المؤكد ان الشاعر تنيسون انما كتب القصيدتين معاً، انطلاقاً من تجربته الشخصية الشعورية على الأقل إن لم يكن الحياتية، اذ ان ليس في سيرة الشاعر المعروفة ما يدل على انه مرّ حقاً بتجرية الحب التي يصفها في قصيدته الأولى وتكون الجذر الذي بنى عليه القصيدة وأحاسيسه الحالكة تجاه العالم. ذلك ان في مشاعر الشاب، ثم الشيخ - في القصيدة الثانية - من الصدق والعمق ما يشي بالارتباط الحتمي بين الشاعر وموضوعه. وهذا الارتباط هو الذي يجعل لهذه القصيدة - وثانيتها - جزءاً أساسياً من قيمتها. بل إن فيهما ما أضفى على تنيسون نفسه جزءاً كبيراً من قيمته كشاعر، خصوصاً أن كثراً من النقاد والمؤرخين قالوا دائماً ان موضوع قصيدته الكبرى «اينوك آردن» كان ينفع موضوع رواية أو مسرحية اكثر منه لقصيدة وجدانية. «لوكسلي هال» هي في المقابل عمل وجداني تماماً، بل انها أشبه بمناجاة طويلة متعددة المقاطع، وإن كانت كلها تسير على وزن وايقاع محددين. أما بطل القصيدة - وصاحب المونولوغ بالتالي - فهو شاب يحدث له ذات يوم ان يعود الى منطقة «لوكسلي هال» حيث كان أمضى الجزء الأساس من صباه وشبابه، وها هو الآن اذ وجد نفسه في المكان يتذكر ما كان من أمر حياته وغرامه هناك، اذ انه كان يعيش في المكان حيث ربّي تحت عهدة عم له لم يكن لطيفاً معه على الإطلاق. وفي ذلك البيت وسط المناخ الكئيب الذي أوجده العم، أغرم الفتى بابنة عمه المدعوة آمي. وكان من الطبيعي لآمي هذه ان تبادله حباً بحب، فقامت حكاية غرام بينهما كان يمكن ان تنتهي باجتماعهما الى الأبد، لكن أهل الفتاة لم يكتفوا بممانعة حبها، بل انهم زوجوها من شخص لا تحبه لمجرد ان يخلّصوها من ذلك الغرام. ومع ذلك الزواج بارح الشاب الدار ليعيش حياته، اما الآن فإنه إذ عاد الى زيارة المكان، ها هي كل ذكريات الماضي تلح عليه وتعود الى خياله فتولد لديه شعوراً بالقهر والحرمان سرعان ما ينعكس حقداً على الظلم ومن ثم ثورة على العالم كله بحداثته وقسوته وضروب التقدم العلمي والأخلاقي والسياسي التي يعيش. ان فتانا، ازاء خيبة حبه، لا يجد أمامه الا الزمن يحمّله المسؤولية، ويعتبر العالم كله قاسياً في حقه. وهكذا في مقاطع عدة من القصيدة يروح صاحبنا مندداً بكل شيء وصولاً الى القطار البخاري والسفن البخارية، ما يدخلنا مباشرة في ربقة الرومانسية التي لا تجد في الحياة الحديثة باكتشافاتها واختراعاتها سوى عقبة في وجه انسانية الإنسان، بينما تجد في العودة الى الطبيعة وإلى العواطف البدائية خلاصاً ما بعده خلاص. للوهلة الأولى قد يبدو هذا كله غير ذي علاقة بحكاية غرام فتانا وخيبته في غرامه، لكن تنيسون عرف كيف يجعل من أبيات القصيدة تبريراً لموقف الفتى وتوقه الى التوحد بالطبيعة الأم وبالقيم القديمة، لأنها وحدها تقينا وتحمينا من شر اخلاقيات أو ذهنيات لم تعد تؤمن بالحب، بل بالمادة وتعتبر كل ارتباط عاطفي بريء وخالص بين كائنين انتقاصاً من مسار التقدم. هذا الموضوع نفسه وبشيء من الغضب أقل، يعود اليه ألفريد تنيسون في القصيدة التالية «لوكسلي هال بعد ستين عاماً» حيث يقدم لنا الشخص نفسه، وقد أضحى اليوم عجوزاً يزور مكان صباه وشبابه. وها هو هنا مرة اخرى يعود ليتذكر حكاية صباه وحكاية غرامه بآمي من جديد. صحيح ان الغرام لا يزال موجوداً وثابتاً، وصحيح ايضاً ان حزن الرجل الذي أضحى شيخاً لا يزال كبيراً ما يجعله يبدو وكأنه انفق حياته كلها مقيماً على ذلك الحب لا يعترف له ببديل. لقد طاف الرجل في البلدان وعرف مغامرات عدة، وربما يكون عاش حكايات غرام كثيرة، لكن دأبه مع لوكسلي هال ومع فاتنته آمي دأب شاعرنا العربي الذي قال يوماً: «نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى / فما الحب الا للحبيب الأول. كم منزل في الأرض يعشقه الفتى / وحنينه ابداً لأول منزل». غير ان الفارق الأساس يكمن هنا في ان الشيخ العاشق المتذكر، صار أكثر هدوءاً، وحلّ لديه ايمان عميق بالله وبالدين محل تجديفه القديم، وصار اقل ميلاً الى لوم الأقدار والحداثة على ما حلّ به. والبشر بالنسبة اليه، حتى ولو كانوا حديثين وظالمين، ليسوا اشراراً كما كان يخيّل اليه في السابق. انهم في قرارة انفسهم طيبون... كل ما في الأمر انهم يخطئون ويعجزون عن الوصول الى التصرف الصحيح. وهكذا يلحقون الضرر بالآخرين، ولكن من دون ان يقصدوا ذلك. اذاً، فالقصيدة الثانية تبدو قصيدة حكمة في مقابل تمردية القصيدة الأولى. والحال ان الفارق بين الإثنتين هو نفسه الفارق بين ما كانه تنيسون في شبابه، هو نفسه، وبين ما صاره لاحقاً في شيخوخته، تشهد على هذا اعمال كثيرة له، من يرصدها يرصد تطوّره الفكري والوجداني. ذلك ان تنيسون، بعد كل شيء كان من شعراء الذات الذين انفقوا عمرهم وجهودهم يعبّرون عن انفسهم وعن نظرتهم الى الكون. ولد تنيسون لأسرة بارونات ثرية في العام 1809 وتوفي في العام 1892. وهو درس على أبيه ثم في كامبردج (كلية ترينيتي). وهو منذ بداياته انخرط في العديد من الجمعيات الأدبية كما قام بالكثير من الرحلات. وواصل الكتابة طوال حياته بحيث انتج اعداداً كبيرة من المجموعات الشعرية والدراسات النقدية. وقد أثر تنيسون في اجيال بأسرها من الشعراء والنقاد الإنكليز. [email protected]