لم تتصور يوماً أن يكون دعاؤها الرئيس في «ليلة القدر» أن تفهم ما يحدث حولها، لكنها دعت وأمعنت في الطلب وبالغت في إفراز الدمع لعل الله يستجيب لتوسلاتها ومنحها إشارة تمكنها من فهم ما حدث، أو إهدائها طرف خيط يتيح لها فك طلاسم «الانقلاب» المدني الناعم على جنرالات المجلس العسكري. وإذا كان البعض دعا في ليلة القدر أن يلهمه الله فهم أسرار اللعبة السياسية الخطرة التي تدور رحاها بين «الإخوان المسلمين» والعسكريين، فإن جموع المصريين ما زالت تعمل وتجتهد، كل بطريقته، من أجل الفهم والتفسير. هناك من رمى نفسه في أحضان الفضائيات التي خرجت من اعتكافها السياسي الرمضاني محاولة اللحاق بالأحداث، لكنه وجد نفسه يدور في دوائر سفسطة مفرغة على أيدي النخبة التي تركت هي الأخرى بيوتها التي عادت إليها تحت الضغط الدرامي الرمضاني، بعد 18 شهراً من التحليل والتنظير والسفسطة السياسية. إلا أن عودة نخب التحليل الاستراتيجي والتفنيد السياسي وقراءة البلورة المسحورة أعادت المشاهد الذي سعد كثيراً باختفائها الرمضاني إلى غياهب ضرب الأخماس في الأسداس، وتصديق وجهة النظر وعكسها في آن، والخروج من البرنامج بأن الرئيس محمد مرسي «انقلب على العسكر» وأن «العسكر خرجوا من المشهد السياسي بالاتفاق المسبق مع مرسي» وأن «مرسي والعسكر يد واحدة» وأن «انقلاباً عسكرياً وشيكاً سيقع على مرسي». هذا الخروج غير الآمن لأعصاب المشاهد وصحته العقلية يدفع آخرين إلى اللجوء إلى ملاذات عنكبوتية آمنة، حيث لا فرض لرأي على آخر ولا تغليب لفكر على آخر إلا بالإقناع. «زيارة مرسي لرفح وجنازة الشهداء وراء إحالة (وزير الدفاع المُقال المشير حسين) طنطاوي و (نائبه الفريق سامي) عنان على التقاعد»، «الإخوان خططوا لمرسي خريطة الاستحواذ على كل السلطات بإقالة طنطاوي وعنان»، «أخونة الدولة لم تكن لتكتمل إلا بإقالة قيادات الجيش»، «قرارات صائبة وتنهي 60 عاماً من حكم العسكر»، «قيادات في الجيش كانت تخطط لاغتيال مرسي وإنهاء حكم الإخوان في 24 آب (أغسطس) وإطاحتهم إجراء استباقي». ساعات طويلة يمضيها المصريون في غياهب «فايسبوك» و «تويتر» محاولين الوصول إلى أي تفسير منطقي ولو كان عنكبوتياً غير موثق بالمعلومات أو التصريحات الرسمية، لكن بلا جدوى. ورغم الضبابية المعلوماتية الشديدة، إلا أن بعضهم يمسك بتلابيب التصريحات الرسمية معتبراً إياها الباب الوحيد للحصول على المعلومة. غير أن التأكيدات الرئاسية على «تقدير كامل لطنطاوي وعنان» وتعيينهما «ضمن الفريق الرئاسي» وتكريمهما، إلا أن المتابع ذكي وما تشيعه التصريحات من أجواء إيجابية سرعان ما يتحطم على صخور الملامح المتجمدة والناطقة بكثير من التوتر والسرية المخيفة. ما لا يمكن التقاطه بالتدقيق والتفحيص في ملامح الوجوه في الصور الفوتوغرافية ل «التكريم» يمكن قراءته في رسوم الكاريكاتير الكثيرة التي لا تعرف المواربة ولا تعترف بالمجاملة. رسام الكاريكاتير كارلوس لطوف رسم الرئيس مرسي يعطي شلوتاً للمشير طنطاوي ملقياً إياه خارج الباب بينما هو منهمك في قراءة كتاب عنوانه «طريق أردوغان إلى السلطة». أما الفنان وليد طاهر فرسم رجلاً يقول لزوجته: «كل شيء بالخناق إلا خروج العسكري بالاتفاق». وسواء كان خروج «العسكري» اتفاقاً أو انقلاباً، وسواء كان انتقالاً إلى الدولة المدنية أو انغماساً في الدولة الدينية أو مجرد هدف محرز في مرمى إحدى القوتين، فإن هذا القدر الهائل من الضبابية لم يؤثر سلباً على تشبث البعض بحلم «الدولة الفاضلة». هؤلاء الحالمون ينتظرون «أن يخرج علينا الرئيس ويفسر لنا سبب قراراته بشفافية مطلقة ونزاهة معلنة، أو أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً». أغلب الظن أن انتظارهم سيطول، لا سيما أن الضبابية بات يشوبها بعض الالتباس وكثير من اللخبطة. بائع الأعلام والهدايا المتمركز في ميدان التحرير منذ شهور هو لسان حال ما يعيشه المصريون. لا يتحدث أشرف كثيراً لأنه «متعب». لكن بضاعته تتحدث عن نفسها وعن المصريين، فعلى طاولته أعلام مصر وليبيا وسورية وفرنسا وإيطاليا والسعودية والأهلي والزمالك وريال مدريد وراية الجهاد السوداء. وعلى الأرض نماذج بلاستيكية رخيصة لشخصية «سبونج بوب» وزرافة وحمار وحشي ودب قطبي. وعلى طاولة خشبية يضع شعارات «الإخوان المسلمين» الخضراء وملصقات الرئيس مرسي وبوسترات «النهضة إرادة شعب» وعليها تلال من أقنعة «فانديتا»، الرمز الفوضوي السينمائي الشهير. ولا يرى أشرف حرجاً في التقارب الجغرافي الذي صنعه لمشروع «الإخوانط النهضوي ولوجه «فانديتا» الملقب إخوانياً ب «بانديتا». يقول: «كله أكل عيش، وماحدش فاهم حاجة».