تحتاج مصر الى أن تبني عاصمة جديدة خضراء، نظراً الى الكثافة السكانيّة العالية في القاهرة، وزيادة مشاكل التلوّث وإزدحام المواصلات فيها، إضافة إلى تفاقم أزمة الطاقة في وقت تتصاعد فيه الحاجة إلى نهضة صناعية عظيمة تمتص غضب العاطلين من العمل. وتعرّف «المدينة الخضراء»، وهي تسمّى أحياناً «إيكوسيتي» eco-city، بأنها مدينة صديقة للبيئة، إذ تصمّم وتشاد منشآتها بطرق تجعلها لا تستنفد كميات كبيرة من الطاقة والماء والغذاء، كما لا تنفث كميات كبيرة من غازات التلوّث المضرّة، ولا تولّد كميات كبيرة من النفايات والمخلّفات الصلبة. وفي المدينة الخضراء، يجري اتّباع إحراءات وخطط صارمة للحفاظ على البيئة، ودعم التنمية المستدامة، وتدوير المخلّفات. وتشمل خصائصها أيضاً أنها تعتمد على نفسها في الغذاء إلى حدٍ كبير. ودشن «الاتحاد الأوروبي» جائزة سنوية تحت مسمى «عاصمة أوروبا الخضراء» في السنة الجارية، فكانت من نصيب «كوبنهاغن» الدنماركيّة. ورشحّت «بريستول» (بريطانيا) لنيلها في 2015، و «لشبونة» (البرتغال) في 2016. وعلى خلاف ذلك التوجه الحديث، أعلنت الحكومة المصرية قبل أسابيع قليلة، عزمها على بناء عاصمة إدارية جديدة على طريق السويس الصحراوي. وتفتقد تلك المنطقة إلى مقوّمات المدن الخضر، بل حتى مقوّمات المُدُن بصورة عامة. وتحديداً، ترتفع درجة الحرارة في المنطقة بصورة كبيرة، وتنشط فيها رياح محملة بالأتربة، وتنخفض فيها نسب هطول الأمطار، وتنعدم مقوّمات العمران في شكل كبير. وتؤدي تلك السمات إلى زيادة الحاجة إلى الطاقة، بغرض التبريد وتنظيف المنازل. تضاف إلى ذلك التكلفة العالية لتوصيل المياه إلى ملايين عدة من الناس، ضمنهم قطاع إداري ضخم ينتظر أن ينتقل إلى تلك المنطقة. ومن العوامل السلبيّة أيضاً، زيادة معدل التبخّر في تلك المنطقة، وتسرب المياه إلى التربة بكميات كبيرة بأثر من شدة الجفاف. واستطراداً، يمكن القول بسهولة إن المناخ الصحراوي لا يلائم استخدام الدراجات وهو أحد مقومات المُدُن الخضر عالميّاً. يعتبر الساحل الشمالي لمصر، وهي منطقة تمتد بين الإسكندرية والحدود الليبية، المكان الأكثر ملاءمة لبناء عاصمة خضراء جديدة، بالنظر إلى مقوّماته الطبيعية والصناعية والزراعية والبيئية. مزايا خضر في الساحل الشمالي يشكّل الساحل الشمالي قرابة 22 في المئة من مساحة مصر. وبقول آخر، تبلغ مساحته أربعة أضعاف مساحتي دلتا النيل وواديه. ويتمتع ذلك الساحل بإمكانات تنموية عظيمة بسبب اعتدال المناخ، ووفرة الموارد الطبيعية، وسهولة التضاريس، وهطول الأمطار الشتوية، وتوافر موراد الطاقة المتجدّدة، واتصاله بالعالم الخارجى من طريق البحر المتوسط ما يعطيه صلة مباشرة مع الأسواق العالميّة. واستطراداً، تزخر منطقة الساحل الشمالي بشواطئ خلابة فيها إمكانات للترويح والاستجمام والسياحة، بما فيها السياحة البيئيّة. وراهناً، تبلغ المساحة المزروعة في تلك المنطقة قرابة 135 ألف فدان، يضاف إليها قرابة 400 ألف فدان جاهزة للزراعة. كما يوجد فيها ما يتراوح بين 3 ملايين و5 ملايين فدان صالحة للزراعة. وتجود في الساحل الشمالي زراعة الزيتون واللوز والتين والعنب والنخيل والخضر والشعير والقمح. وتتمتع الزراعة في تلك المنطقة بما يعرف بنظام «الري التكميلي» الذي يعتمد على وجود أكثر من مورد للمياه. فمثلاً، تقوم الزراعة في منطقتي «الحمام» و «برج العرب»، على مياه النيل والأمطار. كما تروى مزارع منطقتي «فوكه» و «قصر»، بمياه الآبار والأمطار. كذلك يبلغ معدل هطول الأمطار في الساحل الشمالي قرابة 180 ملليمتراً في السنة. ويجعل ذلك المعدل المحاصيل الشتوية في حاجة إلى ريَة واحدة يمكن توفيرها من مياه النيل أو المياه الجوفية. فدورة حياة محصول القمح، مثلاً، تحتاج ما بين 300 و500 ملليمتر مكعب من المياه. وبقول آخر، من المستطاع ري الأشجار في شوارع وبيوت العاصمة الجديدة وحدائقها العامة وأراضيها الزراعية، من طريق تنمية موارد مياه جديدة خارج منظومة النيل التي أضحت مهدّدة بسبب إتفاقية «عينتيبي». تقع منطقة الساحل الشمالي فوق خزانات للمياه الجوفية تكوّنت في عصر الآيوسيين، وتتجدّد بفعل الأمطار السنوية. فعلى سبيل المثال، تبلغ موارد المياه الجوفيه في منطقة «العلمين» قرابة 14 مليون متر مكعب في السنة و10.5 في منطقة الضبعة و7.6 في فوكه، و8.4 في مطروح. ولعل أبرز ما تتميز به الزراعة في الساحل الشمالي يتمثّل في أن مياه الأمطار والآبار، تقلّل الاعتماد على النيل في الري. كذلك يقلّل إعتدال المناخ معدلات الخسارة في مياه الري، وهي تنجم عن التبخر. كذلك تتوافر في الساحل الشمالي فرص لتحلية مياه البحر، على خلاف المنطقة الصحراوية بين السويسوالقاهرة. وتتوافر فيه أيضاً فرص عظيمة للصيد ومزارع الأسماك وصناعة السفن، ما يخدم أيضاً عمليات الشحن والتجارة. كما أن تلك المنطقة ثريّة بمصادر الطاقة المتجددة مثل الأمواج والشمس والرياح. وتشير الدراسات إلى أن منطقة شمال غربي مصر تحتضن قرابة 650 مليون متر مكعب من الثروة المعدنية، و5 بلايين برميل بترول و13.4 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي. وتعتبر المنطقة مؤهلة لبناء مناطق صناعية متكاملة، ترتكز على البترول والثروة المعدنية. يضاف إلى ذلك، أن روعة المناخ في المنطقة وتوافر فرص الترفيه فيها، يجعلانها مناسبة لبناء مستشفيات دولية وجامعات عالمية. كما تلائم المنطقة إنشاء مراكز لبحوث تحلية المياه والزراعة والجيولوجيا والطاقة المتجددة وعلوم الصحراء والبحار والبيئة. ومجمل القول إن بناء عاصمة جديدة لمصر في الصحراء فكرة غير مدروسة جيّداً، بل يتوقع أن تلتحق بمشروعات لم تحقّق المرجو منها ك «مدينة السادات» و «مشروع فوسفات أبو طرطور» و «مشروع قناة توشكي». ويلائم الساحل الشمالي تشييد عاصمة خضراء لمصر تتوافر فيها مقومات الصناعة والزراعة والتكنولوجيا والبيئة، وهو أمر يحتاج أيضاً إلى إزالة الألغام التي زرعتها الدول المتحاربة في الحرب العالمية الثانية. * أكاديمي مصري