ضرب الجفاف لبنان في عزّ موسم الشتاء. ما شهده شهرا كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير) ليس سوى مقدمة من صنع الطبيعة. شحّ الأمطار فيهما جعلهما كأشهر الصيف. حتى منتصف آذار (مارس) لم يكن معدّل الأمطار وصل إلى نصف المعدّل السنوي المطلوب. وتساقط الأمطار الأسبوع الماضي أتى بعد فترة جفاف وانحباس دامت حوالى 54 يوماً، ولا يعوّض النقص الهائل من المياه، ما سينعكس سلباً على أكثر من قطاع. أما الثلوج التي فرّحت قلوب المزارعين وهواة التزلّج فلم تشكّل سوى كمية ضئيلة قد لا تستمر طويلاً إذا ما امتنعت الغيوم عن إرسال دفعات جديدة من الثلج. تداعيات المناخ الصحراوي بدأت تظهر: انقضاء موسم التزلّج، كارثة زراعية تلوح في الأفق، ارتفاع الطلب على شراء مياه الآبار وارتفاع أسعارها. ولعل الإيجابية الوحيدة من هذا المناخ أنّ اللبنانيين ارتاحوا من الطوفان والطرقات المقفلة. تعدّ الزراعة من أكثر القطاعات تأثراً بالتغير المناخي، وعلى حدّ قول بعض المزارعين «لم تعد الأشجار تعرف الشتاء من الصيف، هل تُثمر أو تُزهر». وفي هذا الإطار، يُذكر أنّ بعض المزارعين لجأوا إلى استيراد بعض الأصناف من الأدوية التي من شأنها تأخير «تزهير» الأشجار المثمرة، خصوصاً أنّ هذا المناخ دفع بالأشجار للإزهار في فصل الشتاء. «أعزّ موجود وأغلى مفقود فلنحافظ عليه»، بهذه الكلمات وصف الخبير الزراعي واصف شرارة مياه لبنان، ودعا الجميع إلى الحفاظ عليها، لكنه أسف لسوء إدارتها من جانب الدولة أولاً واللبنانيين ثانياً. وقال: «إن ما تساقط من أمطار وثلوج متفرّقة في المناطق هو ثلث كمية المتساقطات الاعتيادية». وتحدث في هذا الإطار، عن أن محور الثلج الذي كان يتساقط في لبنان على علو 700 متر أي في مناطق عين سعادة، بيت مري، عاليه ارتفع اليوم إلى ال1200 متر بسبب التغير المناخي، ومن المتوقع أن يُواصل هذا المحور تراجعه أكثر فأكثر إلى الجبال العالية فقط، أي ما بين 1800 و2000 متر. وتوقع أن تتراجع أعداد أو أماكن التزلج في لبنان في شكل ملحوظ عام 2050. سحب المياه عشوائياً ولفت إلى أن «مشكلة الشح في المياه لا تزال محدودة، إلا أنها ستتفاقم في الصيف. فالمخزون القليل الموجود في الأنهر والبحيرات سينفد لذلك نحن مقبلون على كارثة زراعية وسيؤثر ذلك في الإنتاج ومن لديه بئر ستجف مياهها أيضاً وسنرى أراضي زراعية يابسة». ونبّه من أن «أسعار الخضر والفاكهة سترتفع في حال تأثر الإنتاج، فالعرض سيكون قليلاً والطلب كبيراً، خصوصاً أننا نعتمد في الصيف على الفاكهة الطازجة»، معلناً أن «70 في المئة من الأشجار المثمرة تأثّرت كون زهرتها تعقد في شهر نيسان (أبريل)، كالليمون والتفاح واللوز الذي بدأنا نراه في الأسواق». ولكن شرارة لم يستغرب حال الطقس إذ «إن هذه الأزمة مرّت عام 1930 و 1933 و1878 وكانت الحلول المطروحة إنشاء المزيد من البرك الجبلية والسدود والحفاظ على المياه لكي لا تصبّ في البحر». وفيما تحدث عن «تلوّث على طول مجرى الليطاني، لأن مياه المجارير والمصانع تصب في النهر»، لفت إلى أن «منسوب المياه في النهر منخفض بنسبة 30 في المئة عن المعدل العام في هذا الوقت». واعتبر أن «الأمن لم يعد أمناً عسكرياً، بل صار أمناً مائياً، ولبنان غني بالمياه ويملك 13 نهراً، ولكنه ليس غنياً بمشاريع الحفاظ عليها». وفي ما يتعلّق بالزراعة في منطقة البقاع، تحدث مدير الاتحاد الوطني العام للتعاونيات الزراعية في منطقة البقاع جورج فخري عن أنه «يتم ري قسم من سهل البقاع الذي كان يطلق عليه اسم «إهراءات روما» من آبار أرتوازية والقسم الآخر من مشروع اليمونة الذي نفذته فرنسا عام 1943، ولكن هذا العام لم تنزل نقطة ماء في الأقنية التي توزّع المياه»، موضحاً أن «تعبئة المياه تتم بالصهاريج لري المزروعات والأشجار المثمرة». ووصف الحال بالكارثة الحقيقية إن لم تتساقط الأمطار هذا الاسبوع، موضحاً أن أحداً لم يكن يشغّل الآبار قبل نيسان. قمير: خطة 2000 لم تنفذ وفي هذا السياق، أعرب المدير العام للموارد المائية والكهربائية فادي قمير في حديث إلى «الحياة» عن «أسفه لأنّ الخطة الاستباقية أي الخطة العشرية التي أُطلقت عام 2000 لم تنفذ بعد، وهي تشمل 39 سداً وبحيرة على مجمل الأراضي اللبنانية، وتهدف إلى تخزين 850 مليون متر مكعب من المياه، كونها تشكل ثروة كبيرة وقيمة اقتصادية مهمة من شأنها أن توفّر الأمن الغذائي والأمن الاجتماعي». وأشار إلى أن «الخطة أخذت في الاعتبار 6 عناوين كبيرة أوّلها وأهمّها تأمين موارد مائية إضافية من خلال إيقاف الهدر في البحر الأبيض المتوسّط وتخزين المياه في سدود وبحيرات وإعادة تغذية المياه الجوفية ليصبح الهدر فقط بين 0 و5 في المئة». وتحدث عن أن «البلدان الموجودة على الواجهة الجنوبية الشرقية من البحر الأبيض المتوسّط تستهلك حوالى 80 في المئة من المياه للري، بينما الدول الموجودة على الواجهة الشمالية تستهلك 50 في المئة منها للري، لأنها تستعمل تقنيات حديثة مثل التنقيط والرش». وفي هذا الإطار، دعا المزارعين إلى «الانتقال من الريّ الكلاسيكي إلى الريّ بالنقطة، إذ في الأولى يصرف المزارع ما بين 10 إلى 13 ألف متر مكعب من المياه في الهكتار، أما في الوسيلة الثانية فتُستعمل نصف الكمية، أي حوالى 6 آلاف متر مكعب من المياه في الهكتار الواحد»، موضحاً أنّ «بهذا التوفير يتمكن المزارع من توسيع البقعة الزراعية ما يزيد الإنتاج، وتالياً المدخول». ولفت إلى أن «المياه المبتذلة تلوّث البحر والينابيع والأنهر وطبقة المياه الجوفية لذلك كان ضمن الخطة العشرية إقامة 40 محطّة تكرير ويمكن إعادة استعمال المياه لري المزروعات وتغذية طبقة المياه الجوفية بتغذية اصطناعية، لأن لها قيمة اقتصادية، إنما استطعنا تنفيذ 6 محطات بغالبيتها ليست موجودة على شبكة المجارير». وحمل قمير مسؤولية عدم تنفيذ المشاريع إلى «الخلافات السياسية التي شهدها لبنان»، مشيراً إلى أن «شح التمويل كبّل هذه الخطة وحال دون انطلاقها واكتمال تنفيذها، إذ تمكّنا فقط من تنفيذ سدّ شبروح في كسروان. وعلى رغم هذا الجفاف فتلك المنطقة لن تتأثر، إنما مناطق أخرى ستتأثر مثل المتن وبعض مناطق جبل لبنان لأن سد بقعاتا لم ينتهِ، والسدود التي كنا سننفذها في عاليه والشوف لم تنطلق». وأضاف: «على رغم كل الصعوبات أردنا خلق وسائل لتمويل هذه المشاريع من القطاع الخاص، وأدخلنا الشراكة معه وطرحنا مشروعاً لإدارة الأحواض المائية من بناء سدود ومحطات تكرير وإنتاج كهرباء من الطاقة المائية وبعد إحالته إلى رئاسة الحكومة عام 2005، توقف كل ما يتعلّق بالخصخصة». ورأى أننا «أمام تأثير تقلّص المساحات الخضراء في لبنان نتيجة الحرائق وقطع الأشجار ما يؤثر في الميزان المائي، إلى جانب النمو السكاني في لبنان وارتفاع الطلب على الغذاء المرتبط حكماً بالمياه، وريّ المزروعات». التغيّر المناخي وفيما رأى قمير «أنّنا أمام سيناريوين: الأول «متفائل» يرجّح ارتفاع الحرارة درجتين في البلدان المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط، والثاني «متشائم»، ويرجّح ارتفاع الحرارة 3 درجات في المناطق المحيطة بالبحر المتوسط»، لفت إلى أنه «في حال ارتفعت الحرارة درجتين في المتوسط، مِن المتوقع أن تتراجع نسبة المياه المتجددة في لبنان من بليونين و700 مليون متر مكعب إلى بليونين و200 مليون متر مكعب، بمعنى آخر أنّ نسبة المياه التي نفتقدها هي 500 مليون متر مكعب وتوازي كمية المياه التي تُصرف في لبنان للشرب». أما في حال ارتفعت الحرارة 4 درجات، فكمية المياه المتجددة في لبنان ستتراجع من 2.7 بليون متر مكعب إلى 1.8 بليون متر مكعب، وسنخسر حوالى 900 مليون متر مكعب من المياه، ما يوازي كمية المياه التي تُصرف للري. ولم يستبعد قمير أن يكون «السيناريو الأول قابلاً للتطبيق في المرحلة المقبلة. أما السيناريو الثاني، فيمتدّ على الأمد الطويل». وقال: «إن الحل هو تنفيذ الخطة الاستباقية التي وضعناها واستعمال مصادر المياه غير التقليدية عام 2030». وأردف: «من ظواهر التغير المناخي تدني نسبة المتساقطات التي تأثرت أيضاً بتراجع عدد الأيام الممطرة في لبنان من 70 - 90 يوماً في السنة إلى 50 -60 يوماً، والملاحظ أنّ المتساقطات تأتي أشدّ من حيث الكثافة أي تتساقط الأمطار بغزارة وتتوقف فجأة، وهي لا تصل إلى المعدل العام السنوي. فبعدما كان هذا المعدل 800 ملم سنوياً، بتنا لا نصل إلى هذا المعدل إلا بعد مرور 8 سنوات». وفيما أشار إلى أن «ظاهرة الفروقات الملحوظة في الحرارة بين الصباح والمساء جديدة على بلدان المتوسط، لأنها كانت موجودة فقط في المناطق الداخلية المتوسطة البعيدة عن البحار حيث الفارق في درجات الحرارة بين الصباح والمساء 20 درجة، أكد أنه مع بروز «مؤشرات التغير المناخي في لبنان، بات السير في الخطة العشرية والشروع في بناء السدود المتبقية أو استكمالها أكثر إلحاحاً، خصوصاً أنه على رغم تراجع كمية المتساقطات لا تزال المياه المهدورة في البحر توازي بليوناً و200 مليون متر مكعب ويجب العمل على استغلالها». السدود عن وضع السدود المائية وتدنّي نسبة تخزينها للمياه، أوضح قمير أنّ «سدّ القرعون يبدأ تخزين المياه في شهر أيار (مايو)»، آملاً بأن «يتحسن منسوب المياه فيه، أما إذا لم تتساقط الأمطار والثلوج بعد فلا شك في أنّ هناك مشكلة، لأنّ موجودات السدّ لا تكفي حتى فصل الصيف، إلا أنه يجب انتظار شهر أيار أولاً، أي عندما تبدأ الثلوج بالذوبان»، وتوقع أن ينتهي العمل بسد اليمونة قريباً. وقال: «إن سدّ بقعاتا قيد البناء ويحتاج إلى 3 سنوات، كذلك في سدَّي بلعة والمسيلحة. أما إذا أكملنا العمل على بناء السدود المائية، فنحتاج أقله إلى 8 سنوات للانتهاء منها». أما سدّ شبروح، ف «لا مشكلة فيه إطلاقاً حتى اليوم ووضعه أفضل من سدّ القرعون لأنه يتغذى عادة من الثلوج والمتساقطات ونبع اللبن، وتالياً لا معاناة تواجهها منطقة كسروان في فصل الصيف. لكنّ المعاناة الحقيقية هي عند المزارع المعتاد على الريّ من الآبار أو الينابيع أو البحيرات، وإذا لم تتساقط الثلوج لتعبئة البحيرات فستكون هناك صعوبة في مواجهتها». المياه الجوفية عن وضع المياه الجوفيه، قال قمير: «وضعها سيئ جداً، خصوصاً أن 90 في المئة من استعمال المياه في لبنان يستند إلى المياه الجوفية وتتوزع ما بين الاستعمال المنزلي والشرب والزراعة»، لافتاً إلى أنّ «المياه الجوفية التي كانت موجودة على عمق 20 متراً باتت اليوم موجودة على عمق 100 متر، وذلك لشدة الحاجة إليها وعدم إعطائها الوقت لتمتلئ مجدداً». وأكد أنّ «المستفيدين من المياه الجوفية هم أكثر المتضررين من الجفاف هذا العام، أما أكثر المناطق تأثراً بالجفاف وتضرراً من الاحتباس الحراري فهي مناطق البقاع الشمالي، والمناطق الجبلية الزراعية والجنوب لأنها مرتبطة بمشروع الليطاني».