على غرار العلماء والمتخصصين، اطّلع معظم العاملين في النشاطات السياحية المصرية على تقرير «برنامج الأممالمتحدة للبيئة» 2007، الذي حمل عنوان «بالحماية والاستفادة من السواحل – سواحل البحر المتوسط ميّزة عامة مهددة». وشمل التقرير توقعات عن المناخ في حوض البحر المتوسط خلال الثلاثة والعشرين عاماً المقبلة. وأبرز التقرير ما يتوقّع ان يحدث عند دلتا النيل شمال مصر، إذا ارتفعت مياه البحر المتوسط بمقدار خمسين سنتيمتراً. وقدّم التقرير معطيات عن تقارير علمية حديثة ومتنوّعة، أكّدت أن معدلات ذوبان ثلوج القطبين الشمالي والجنوبي أسرع بكثير مما كان متوقعاً، ما يضاعف معدل ارتفاع منسوب مياه البحر المتوسط إلى متر، وليس مجرد خمسين سنتيمتراً، ما من شأنه إلحاق الضرر بقرابة ستة ملايين نسمة من سكان شمال مصر، وغرق مساحة أربعة آلاف وخمسمئة كيلومتر مربع من أراضي الدلتا، بينها مليونان ونصف مليون فدان من أخصب الأراضي الزراعية في البلاد. وشمل التقرير ثلاث صور توضح المقصود من توقّعاته وترسمها، مع تشديده على أهمية إيلاء اهتمام خاص لكمية الجليد في القطبين وجزيرة «غرين لاند» الملاصقة للقطب الشمالي والمغطاة بطبقة سميكة جداً من الجليد تبلغ قرابة مليونين ونصف مليون كيلومتر مكعب. وقدّم التقرير تقديرات تقريبيه عن كمية المياه المتوقع ان تتدفق الى مياه المحيطات والبحار والمسطحات المائية، بأثر من ذوبان جليد «غرين لاند» والقطب الجنوبي، من دون احتساب المياه المتأتية من ذوبان جليد القطب الشمالي، لأنه علمياً مدرج ضمن تقديرات مياه المحيطات فعلياً. وتقدّر كمية مياه ذلك القطب بأربعة وثلاثين مليون كيلومتر مكعب، مع ستة عشر مليون كيلومتر مربع من الجليد المتفاوت السماكة. والمعلوم أن القطب الشمالي هو محيط متجمد، فيما القطب الجنوبي قارة مغطاة بالجليد والثلوج. ولتخَيّل كمية المياه المشار إليها، يكفي القول ان مساحة مصر مليون كيلومتر مربع، فيما مساحة الجليد المتوقع أن يذوب في القطب الشمالي يوازي ست عشرة مرة مساحة مصر، يضاف إليها أربعة وثلاثون مليون كيلومتر مكعب. ومن المتوقع أن يتدفق كثير من تلك المياه، فيختلط بمياه المسطحات المائية الكبرى، مترافقة مع ارتفاع كبير في منسوباتها من المياه. مصر: موقع مميّز تقع مصر في أقصى الركن الشمالي في شرق القارة الإفريقية، كما تملك سواحل على البحرين المتوسط والأحمر، يصل طولها الى قرابة ألفين وستمئة كيلومتر. وتبلغ مساحة بلاد النيل مليون كيلومتر مربع. وتتميّز أرضها طبوغرافياً بأنها تأخذ في الارتفاع من سواحل المتوسط حتى حدود السودان. وقد أطلق على النصف الشمالي منها اسم «مصر المنخفضة»، وسُميّ النصف الجنوبي «مصر العليا». ولقد بدأت فعلياً ظواهر مناخية شاذة تضرب مصر، مثل السيول الصحراوية الجارفة، التي دمّرت قرى بأكملها، وكذلك تساقط البَرَد الذي يدمر المحاصيل الزراعية، وظاهرة «الصيف الكاذب» الذي يتسبّب في ارتباك مواسم المحاصيل الزراعية كلها، وأخيراً الأمطار الغزيرة وتوابعها التي تترك آثاراً قوية في عمران إجتماعي لم تُجهّز بنيته الأساسية لمواجتها. في ظل هذه المعطيات، من الأكيد أن تكون السياحة ضحية الاحتباس الحراري والتغيّرات المناخية، إذ يعتمد الاستثمار السياحي أساساًَ على حال المناخ. وقد انطلقت في مصر منذ أربع سنوات، مبادرات من القطاع الخاص والجمعيات الأهلية وشركات السياحة والغوص (وحتى من السيّاح)، لتدعيم سواحل البحرين الأحمر والمتوسط، إضافة الى صحارى مصر الثلاث. وجرى زراعة أكثر من ألف وخمسمئة «شمندورة» لحماية الشعاب المرجانية، وتكوين شبكة مراقبة بيئية نشطة تمكّنت من وقف مخالفات جسيمة في حق البيئة في الساحل والبحر والصحراء. كما يعمل بعض السيّاح على تعليم السكان المحليين فنون الحِرف اليدوية وفنون الزراعة وطرق الريّ المقتصدة في المياه. وفي الإطار عينه، نُفّذت عمليات تجميع القمامة والملوثات من قاع البحر، بالتعاون مع مراكز الغوص. وجرت عمليات مُشابهة للحفاظ على نظافة التضاريس الجيولوجية الصحراوية النادرة. ومنذ ثلاث سنوات، فعّلت وزارة السياحة دورات لتدريب أدلة الصحراء وصقل مهاراتهم، تركّز عملها على أبناء الواحات والمجتمعات الصحراوية النائية. وشملت الدورات فنون قيادة سيارات الدفع الرباعي والملاحة الصحراوية والإسعافات وتشييد المعسكرات وإدارتها ومعلومات تاريخية عن صحارى مصر وبيئتها. وتسعى هذه الدورات أيضاً الى توفير مصدر رزق كريم لأبناء الصحراء، عِبر دمجهم في النشاط السياحي، إضافة الى غرس الوعي البيئي بين صفوفهم. وتعمل الوزارة على وضع منظومة للحدّ من ظاهرة الاحتقان السياحي، بواسطة تأمين مواقع تبادلية للغوص أمام سواحل البحر. وفي هذا السياق، يعزل قطاع ما من الساحل لعامين، ويوقف فيه الغوص، لإعطاء فرصة للنُظُم الحياتية المتنوّعة كي تُجدّد نفسها بنفسها. وبديهي أن هذه النشاطات تركت آثارها على نشاط السياحة المصرية، التي جذبت أكثر من إثني عشر مليون سائح في العام 2009، كما حقّقت إيرادات تعدت عشرة بلايين ونصف بليون دولار. وسجّلت الفنادق مئة وستة وعشرين مليون ليلة سياحية في تلك السنة، ما جعل السياحة مصدراً أول للعملة الصعبة، إضافة لكونها مصدر رزق لإثني عشر في المئة من القوة العاملة المصرية، كما تعتمد سبعون صناعة أخرى عليها. وإذ شملت النشاطات البحرية المتضاعفة سنوياً، سواحل البحرين الأحمر والأبيض، الثرية بالشعاب المرجانية والآثار الغارقة والمناخ الجذّاب، وقرابة ستمئة من القرى والفنادق والمنتجعات الواقعة على السواحل مباشرة، يظهر أنها ساهمت في ارتفاع عدد من يقصدون مصر لممارسة الغوص، ليتجاوز ثلاثة ملايين غواص في السنة الفائتة. السياحة في مهب المناخ إذاً، هنالك تغييرات مناخية لها آثار إيجابية على السياحة، مثل إطالة موسم الصيف على السواحل الشمالية لتشمل شهري أيلول (سبتمبر) وتشرين الأول (أكتوبر)، ما يحقق استغلالاً كاملاً للمشاريع السياحية العملاقة المستحدثة على سواحل المتوسط. وينطبق وصف مماثل على البحر الأحمر. فبدلاً من الكثافة السياحية فيها قبل أعياد الميلاد ورأس السنة وبعدهما، يتوقّع أن يمتد الموسم السياحي طويلاً. ومن المعلوم ان اضطراب المناخ وتقلّباته تترافق مع كثير من الآثار السلبية، مثل ارتفاع درجات الحرارة لمياه البحر، التي تترافق مع انتشار ظاهرة ابيضاض الشعاب المرجانية وموتها، وكذلك من المتوقع ان يضرب الجفاف شجيرات المانغروف التي تعتبر من عناصر اجتذاب السياح. ويتوقع أيضاً ان تتسبّب التغيّرات مناخياً في ظواهر مثل العواصف، ما يدفع إلى مراجعة أفكار العلماء واقتراحاتهم ودراساتهم، التي وُضِعت خلال الثمانين سنة الماضية. ولعل التقرير المشار إليه أعلاه من أفضل النماذج عملانياً وعلمياً في هذا الصدّد. وقد ذكّر العالِم المصري الدولي الدكتور محمد عبدالفتاح القصاص بهذا التقرير في كثير من المؤتمرات الدولية المتخصصة. والمعلوم أن القصّاص هو أول رئيس ينتخب من الدول النامية ليتولى رئاسة «الاتحاد الدولي لصون الطبيعة» لدورتين من عام 1978 حتى عام 1984. ومن المهم أيضاً ملاحظة ان التقرير عينه يشمل علاجاً لظواهر الاضطراب في المناخ، وشرحاً لطُرُق العمل على تقليل الخسائر المتوقّعة منها، سواء في مصر، أم في دول الدول السبع والعشرين المتشاطئة حول البحار الثلاثة (المتوسط والأسود والبحر الأحمر). ويتضمن التقرير تفعيلاً لمشروع وضعه المهندس الألماني هيرمان سورجيل في 1928، يتصل بسدّ وحوض تحكّم («هاويس») في مضيق جبل طارق المحصور بين جنوب غربي القارة الأوروبية وشمال غربي القارة الأفريقية. ولا يزيد عرض مضيق جبل طارق عن أربعة عشر كيلومتراً وربع كيلومتر، لكنه يفصل بين المحيط الأطلسي والبحر المتوسط، ما يخفف من أثر تدفق المياه الأتية من ذوبان ثلوج القطب الشمالي وجزيرة «غرين لاند». ويدعو المشروع أيضاً، وسعياً لتحقيق الهدف نفسه، إلى بناء إنشاءات بحرية مماثلة عند مدخل قناة السويس الشمالي في بورسعيد، بعرض 19.5 كيلومتر، ما يوفر الجهد والمال لجميع دول المنطقة، بدلاً من تخصيص موازنات تتعدى بلايين الدولارات لبناء الجدران الفاصلة والسدود لآلاف الكيلومترات أمام سواحل كل دولة على حِدة. يتم الاتفاق على مساهمة مناسبة من السبع والعشرين دولة في هذا المشروع لدول الحوض ودول حوض البحر الأسود. وهناك مشروع لبناء إنشاءات بحرية مماثلة عند مضيق باب المندب، كي يتحكّم بتدفق المياه من المحيط الهندي الى البحر الأحمر. في هذا السياق، يشار إلى أن الهندسة الحديثة يمكنها التغلب على مشكلة تحرك صفائح القارة الأفريقية وابتعادها من الجزيرة العربية. وقدّم علماء مصر بحوثاً في هذا الصدد، خلال السنوات الخمس الماضية. وضمّت صفوف هؤلاء العلماء الدكتور القصّاص والدكتور مصطفى طلبة، الذي انتخب رئيساً ل «برنامج الأممالمتحدة للبيئة» (بين عامي 1974 و 1992) والذي يرأس حالياً «اللجنة التيسيرية لمشروع البلاغ الوطني الثاني»، التي تسعى لإعداد مصر لمواجهة التغيرات المناخية. ومن المرتقب إصدار قرار بتشكيل مجلس قومي واسع الصلاحيات، بهدف مواجهة ظاهرة الاحتباس الحراري والتغيرات المناخية المتصلة به، وكذلك للعمل على سنّ القوانين المناسبة، وإعداد سواحل مصر بالإنشاءات والتخطيط الهندسي العملي المناسب لحماية البلاد من هذه الكارثة التي تزحف ببطء على الأراضي المصرية. ومن المؤكد أن الحل المثالي يكمن في التعاون الدولي مع الدول المتشاطئة على المتوسط والأسود والأحمر، لبناء سدود دولية عند مضائق تلك البحار، ما يساهم في إنقاذ سواحلها وسكانها. * مستشار وزير السياحة المصري لشؤون البيئة