فجراً تدب الحياة في الطرق الضيقة المتعرجة التي توصل إلى مقبرة القرية اللبنانية. هنا يبدأ كل عيد. عند الأحبة الذين غادروا بيوتهم إلى المقابر. قبور القديم منها بسيط مطلي بالكلس الأبيض، والحديث منها تزنّره لوحات من رخام أبيض تزرع بينها ورود ملونة. تغسل أيادي الأمهات والقريبات القبور وتمسح عنها حبّات الماء بعناية ويرمين فوقها وروداً قطفت لتوها من الحدائق الصغيرة للبلدة التي تقع في سهل البقاع شرق لبنان. عند المقبرة، تتبادل الوجوه الناعسة الابتسامات والتهاني باليوم المبارك. بين الشجر والأمهات، يعبر هواء فيه كثير من السلام الذي يحمله العيد. بعد قليل ستقوم القرية كلها إلى النهار المشهود. الأطفال والأولاد فرجة لا يمل منها. احتفال الألوان في السراويل والقمصان والفساتين وبريق الأحذية، ولمعان الشعر المثبّت إلى فوق بالجلّ، وهرولتهم في جماعات من مكان إلى آخر. لهؤلاء ساحاتهم في هذه البلدة كما في كل بلدة، حيث متعة لن يعرفها من أمضى طفولته في بيروت ومدن أخرى تشبهها. ساحات تحتضنهم ما إن يطلع نور الشمس، فيتسابقون إلى دكانينها بحثاً عن «المتعة الكبرى» في تسلّحهم جميعاً بالبنادق البلاستيكية والمعارك التي تدور بلا كلل ولا ملل في كل زوايا القرية. وهي بنادق صينية الصنع ممنوعة وما زالت تدخل إلى لبنان بطرق ملتوية، لأنها تزود برصاصات بلاستيكية بحجم حبات العدس تصير عند إطلاقها مصدر خطر شديد على العيون. لكن العيد يبدو ناقصاً من دونها، ومن دون المفرقعات التي لا يتوقف دويها ما دام العيد موجوداً. يتكثف العيد في القرى، على العكس من بيروت التي تمضي عيدها في المراكز التجارية. لا مكان لصورة العيد في العاصمة، ولا لنشاطاته المتصلة وتقاليدها. في القرى البقاعية ثمة عادة تبرز تعاضداً اجتماعياً متيناً في الشكل، ولا شك في أنه سينسحب على المضمون. العائلات التي فقدت أحد أفرادها في الفترة بعد آخر عيد، هي الأحق بالزيارة أولاً، من كل عائلات القرية. تشكّل كل عائلة وفداً يضم ممثلين عن كل جيل منها ويروحون لمواساة العائلة التي فقدت عزيزاً، كي لا يشعر أفرادها بالوحدة في يوم العيد. الوقت أيضاً في العيد يغدو مختلفاً. وقت الناس ضيق بشدة. على الجميع أن يزور الجميع، في تجوال مكوكي متواصل وفرح، حيث أبواب البيوت تظلّ مفتوحة، والزيارة تطول لدقائق فقط، يتبادل فيها الأقارب التهاني ومن طالت زيارته تتسع لفنجان «قهوة عربية» أو «قهوة مرّة» وفق التسمية المتعارف عليها بقاعياً. في الأغلب يأخذ الزائرون حبّات السكاكر والحلوى، التي تروح تملأ جيوب الكبار والصغار، ويغادرون إلى بيوت أخرى. دوران فيه فائض من التقارب الاجتماعي يكاد يصل إلى حدوده الدنيا في بيروت التي لا تتوقف عن الركض إلى اغتراب الأسر عن محيطها الأوسع. دوران فيه تجديد للإلفة كما هي، في عالم ألفته باتت كلها افتراضية... وتواصله الاجتماعي إلكترونياً. العيد هنا أحلى، ربما لأن الريف ما زال أبرح وأكثر تسامحاً، وأبطأ. متسامح في المساحات المفتوحة للّعب في البيوت والساحات، وفي أنه، وهذا أساسي، ملجأ الآتين من «غربة» المدن باحثين عن الإلفة المفتقدة هناك، يصرّون على إبقاء الزمن، ما أمكن، على ما هو عليه، لأن تحديث العيد يؤذيه. يفقده أحلى ما فيه.