اشتريت باقة ورد لأبي، فسبقه إليها عبدالرحمن الكواكبي. شعرت بالخجل وأنا أقف أمام قبر والدي بيد خاوية، ثم هممت بالانسحاب خلسة من أمامه إلى ناصية المقابر حتى أحضر إليه سلة ورد أخرى، ولكنني تسمرت مكاني وأنا أشعر برجفة في بدني. لم تكن رعشة خوف من مهابة المكان، ولكن رجفتي كان سببها الإحساس بالتلبس، فروح أبي تتلبسني الآن، تتلمس جسدي وتطوف في قلبي وتفتش في عقلي. إنها عادته التي وعيت عليها، لم يكن يهمه التفتيش في كراساتي أو أشيائي الخاصة، كان يحب محاورتي والتفتيش في عقلي. أشعر الآن بروحك منتشية يا أبي وأنت تبحث في عقلي. هل زارك الكواكبي وشكرك على باقة الورد؟ إن المسافة قصيرة بين مقابر باب النصر وباب الوزير ولعله يجلس الآن معك ويفتش هو الآخر في عقلي عما دعاني الى زيارته. إنها مجرد مصادفة. الزحام هو ما دلني على مكانه. فأنت تعلم خط سيري من عملي إلى البيت واليوم الذي علمت فيه مكان قبره كان يوماً خانقاً. السيارات تكاد لا تتحرك حتى تقف أعلى جسر السيدة عائشة ففضلت اتخاذ يمين الطريق حتى أمرّ من تحت الجسر إلى القلعة وشارع باب الوزير وبصعوبة وصلت إلى نهاية الطريق ثم توقفت، وطالت وقفتي ولا أعرف من أدار وجهي يميناً إلى هذه الزاوية من الشارع والتي تبرز منها مقبرة حُفر على شاهدها بيتان من الشعر وتحتهما اسم الكواكبي. وذهلت: أحقاً هي مقبرة الكواكبي؟ ولم أتمالك نفسي ونزلت وازداد ذهولي. إنها بالفعل مقبرته. كشفها الطريق الجديد. وها هو رثاء شاعر النيل حافظ إبراهيم الذي حضر دفنه وقال: «هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى/ هنا خيرُ مظلوم هنا خيرُ كاتب/ قفوا واقرأوا أم القرى وسلّموا عليه/ فهذا القبر قبرُ الكواكبى». ولم أهنأ بكشفي بسبب صوت نفير السيارة التي كانت تقف خلفي، فأسرعت إلى سيارتي والطريق ما زال عالقاً فنظرت باستياء إلى سائق السيارة، فنظر إليّ بوجه مشدود وأدار لي كفيه حول بعضهما في إشارة للاستعداد. ولم أشأ مناقشته حتى لا تتحول المناقشة إلى مشادة ثم مشاجرة. هل تعلم يا أبي أننا وصلنا إلى زمن يعادي فيه المرء من لا يعرفه لمجرد أنه جنح بسيارته أمامه كي يمر قبله. وإذا استطاع أن يفلت بفعلته فلن تفلت أذناه من سماع شتمته بأمه وأبيه وبالبلد الذي يؤويه. أصبحنا غرباء عن بعضنا والشرح يطول في أسباب الغربة والعزلة. ظلت عيناي معلقتين على شاهد القبر حتى تحرك الطريق فتحركت وأنا عاقد العزم على أن أعود في وقت لاحق لزيارته. قضيت سهرتي مع «أم القرى» و «طبائع الاستبداد» وقرأت مرة أخرى سيرته الشخصية وشجرة عائلته التي يرجع نسبها إلى الحسين رضي الله عنه وعدم رضى السلطان العثماني عن أفكاره وفراره من موطنه في سورية إلى مصر. وكيف أن عيون السلطان رصدته ونقلت كل أفكاره التي نادى بها لنزع الخلافة عن الأتراك وإرجاعها إلى العرب وكانت دعوته سبباً في دس السم في طعامه. وقفت طويلاً أمام وصفه الاستبداد في عصره بما نصفه به الآن حكومة الفرد المطلق الوارث القائد للجيش عدو الحق والحرية المستبد الذي يودّ أن تكون رعيته كالغنم دَرّاً وطاعةً، وكالكلاب تذللاً وتملّقاً. ها هو اليوم يا أبي الذي خصصته لزيارة الكواكبي أقف فيه أمامك. اشتريت لك باقة الورد فأنا لم أكن لأزوره من دون أن أمر عليك. وما إن وصلت إلى قبره حتى سحبت يدي الباقة ووضعتها على شاهده، فهل تسامحني؟