منذ أن بدأت الأحداث الميدانية في سورية تتخذ منحى تصاعدياً في سخونتها بدا الموقف الروسي حيال الشأن السوري أكثر حذراً وميلاً إلى مراقبة ما يجري بصمت وتجنب إطلاق تصريحات رنانة، وتجلى ذلك خصوصاً مع اندلاع المواجهات في مدينة حلب التي وصفها وزير الخارجية سيرغي لافروف في بدايتها بأنها ستكون «معركة حاسمة». ولا يخفي خبراء وديبلوماسيون روس أن لهجة بلادهم «فقدت في الفترة الأخيرة كثيراً من حزمها» وباتت أكثر ميلاً لانتظار ما قد تسفر عنه التطورات الميدانية من جانب، والحراك السياسي حول سورية في الجانب الآخر. وعزا خبراء تحدثت إليهم «الحياة» التطور إلى أن «القيادة الروسية بدأت تدرك أن الموقف أكثر تعقيداً مما كان يبدو خلال الشهور الماضية». وفي تفسير هذه المقولة أن «غالبية الخبراء والمختصين الروس الذين كانت تتم استشارتهم كانوا يظنون أن النظام السوري قادر على مواجهة الاضطرابات وبسط السيطرة بسهولة على الأمور» في ما بدا أنه نتيجة نقص حاد في المعلومات أو تجاهل متعمد لطبيعة الحراك في الشارع السوري برز بقوة عندما شدد لافروف خلال محادثاته مع المعارضين السوريين على ضرورة «عدم إطلاق صفة الثورة على الوضع السوري»، معتبراً أن اختيار هذا الخطاب «سوف يعقد المسألة أكثر». وفي هذا السياق بدا أن موسكو راهنت في البداية على حسم عسكري مضمون خلال فترة أسابيع، وحتى عندما لم تخف خيبتها بسبب تواصل المنحى التصاعدي للأزمة، لم تتردد في منح نظام الرئيس بشار الأسد فرصة أخرى للحسم العسكري بعد زيارة قامت بها في حزيران (يونيو) الماضي مستشارة الرئيس السوري بثينة شعبان إلى موسكو. لكن التحول الجدي في الموقف الروسي لجهة التريث وتفضيل مراقبة التطورات الجارية بدأ كما أكدت الخبيرة يلينا سوبونينا ليس مع تطورات الموقف الميداني في حلب، بل بعد تفجير مبني الأمن القومي في دمشق في 18 تموز (يوليو) الماضي ما أدى إلى مقتل 4 من كبار أعضاء خلية إدارة الأزمة في سورية. عندها أدركت موسكو أن الوضع على الأرض أعقد بكثير وأن من الضروري انتظار ما ستنجلي عنه الأمور حتى يتمكن الروس من رسم ملامح الخطوات المقبلة. وبحسب ديبلوماسي روسي فضل حجب اسمه فإن سبباً آخر يقف وراء الحذر الروسي خلال الفترة الأخيرة، مرده إلى حال الارتباك التي تسيطر على مصنع القرار الروسي حيال ملف التطورات في المنطقة العربية كلها، خصوصاً بعد بروز أصوات اعتبرت أن الديبلوماسية الروسية ارتكبت أخطاء عبر الرهان الزائد على نظام الأسد، ما قد يسبب خسائر كبرى لروسيا في المنطقة كلها. ويشير محللون إلى أن نوعاً من التباين برز خلال الفترة الأخيرة بين فريقين يواصل أولهما التأكيد على ضرورة عدم التراجع عن المواقف المعلنة ويواصل المراهنة على إمكانية الوصول إلى اتفاقات مع البلدان الكبرى تحفظ مصالح روسيا، بينما يرى الآخر أن الأحداث الجارية تسبق الديبلوماسية الروسية بخطوات. لكن الفريق الثاني ما زال يفضل الحديث خلف الأبواب المغلقة، و «حتى من لا يوافق على سياسة الكرملين لا يمكنه أن يتحدث بصوت عال» كما علق أحدهم. على رغم ذلك برز التباين بين الفريقين في مواقف عدة، إذ لم يخف رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الروسي ميخائيل مارغيلوف خلال لقائه وفد المجلس الوطني السوري قبل أسابيع وجود تناقض في المواقف داخل مصنع القرار، وأبلغ محدثيه أن «الموقف الروسي ليس كتلة واحدة متماسكة». كما ظهر ذلك عندما نفى سفير روسيا لدى البحرين فيكتور سميرنوف أن يكون طرأ تبدل على موقف بلاده حيال الوضع هناك، واعتبر أن حديث مندوب روسيا الدائم لدى الأممالمتحدة فيكتور تشيركوف في جلسة مغلقة على مستوى المندوبين حول دعوة مجلس الأمن لمناقشة الوضع السياسي في البحرين «لا يعبر إطلاقاً عن الموقف الروسي الرسمي الداعم لمملكة البحرين وللخطوات الإصلاحية من جانب الملك». وفي مؤشر آخر، نفى ديبلوماسي روسي رفيع تحدثت إليه «الحياة» أمس، صحة معطيات نشرتها وسائل إعلام عربية ونسبتها إلى نائب الوزير ميخائيل بوغدانوف حول تردي الوضع الصحي لشقيق الرئيس السوري ماهر الأسد، وحول استعداد الأسد للتنحي. وبين التكذيب حيناً ونفي ما يتسرب من معطيات أحياناً، يبدو أن مصنع القرار الروسي، والمقصود الكرملين وليس الخارجية التي تؤدي مهمات تنفيذية تخضع لسلطة الرئيس مباشرة، يعيد ترتيب حساباته وأوراقه على ضوء المتغيرات الجارية على الأرض، ولا يبدو أنه يفضل التسرع في إعلان خطواته المقبلة.