منذ اكتشف العالم كتاب «ألف ليلة وليلة» («الليالي العربية»)، والكتّاب لا يكفّون عن محاولة محاكاته، أو الاستيحاء منه. ولقد أضيف كتاب التراث الحكائي العربي/ الشرقي هذا، إلى ذلك النمط من كتب الحكايات الذي كان معروفاً على نطاق واسع في الغرب، مثل «ديكاميرون» بوكاشيو، ليشكل زاداً للمبدعين وأسلوب كتابة شيقاً، يمكن فيه التنقل بين البلدان والمواضيع والأفكار والشخصيات وفق هوى الكاتب وبما فيه لذة القارئ، مع العودة الدائمة إلى الحبكة أو الشخصية الرئيسة. وغالباً ما كان هذا النوع من الكتابة يقسم أزمانه وفصوله على أيام وليالٍ، على نسق «ألف ليلة» أو على نسق «ديكاميرون» الذي يرى بعض الباحثين أن مؤلفه لا شك اطّلع على الليالي العربية، أو على مصدر من مصادرها، كما هي الحال بالنسبة إلى «حكايات كانتربري» الإنكليزية التي تمت بصلة حميمة إلى «ديكاميرون». وعلى رغم تعدّد الكتب، وفي لغات عدة، التي استوحت «ديكاميرون» أو «ألف ليلة» أو «حكايات كانتربري» أو الثلاث معاً، يظل كتاب البولندي يان دي بوتوسكي، الأغرب والأكثر إثارة، مع أنه الكتاب المعروف أقل من غيره، ومع أنه لم ينشر مكتملاً في أية لغة حتى الآن، إذ في كل مرة يقال فيها إن فصولاً جديدة منه اكتملت وعثر عليها، يتبين أن ثمة فصولاً لا تزال ضائعة، بحيث إن حكاية هذا الكتاب، في حد ذاتها، صارت جديرة بأن تكون عملاً مستقلاً في ذاته. والكتاب الذي نعنيه هو «مخطوطة عثر عليها في سرقسطة» الذي كتبه بوتوسكي أصلاً بالفرنسية وأعطاه عنواناً بسيطاً هو «الأيام الإسبانية»، لأن أحداث الكتاب تدور في إسبانيا، وباكراً في القرن الثامن عشر. ومن الواضح أن بوتوسكي لم يكتف بأن يستوحي «ألف ليلة وليلة»، بل جعل مركز الثقل في العمل شقيقتين مسلمتين هما أمينة وزبيدة، يلتقي بهما بطله منذ أول رحلته فيغرم بهما، ويعود طوال الرحلة ليلتقي بهما من جديد، تطلعان له في لحظات خاصة كالسحر، بحيث يستنتج القارئ في نهاية الأمر أن هاتين الحسناوين ليستا سوى تجسيد للأشباح، أو لأحلام البطل... ومصدر إلهامه وحبه وقلقه. وكذلك على الدوام مصدر الرعب الذي يتملك القارئ طوال صفحات هذا الكتاب الغريب. ومن المعروف للمطلعين أن يان بوتوسكي لم ينه هذا الكتاب سوى خلال العامين الأخيرين من حياته الصاخبة التي عاشها متنقلاً رحالة أفّاقاً وديبلوماسياً مغامراً وكاتباً هاوياً، وأتاحت له أن يضع الكثير من الكتب، من دون أن يتوقع يوماً أن ينتهي به الأمر إلى كتابة هذا النص الساحر الغريب. فهو في كتاباته قبل ذلك كان مجرد عالم وباحث يخوض في تاريخ الشعوب، وفي أدب الرحلات، وفي الاكتشافات الجيولوجية. أما بالنسبة إلى الأدب فكان مجرد قارئ لا أكثر. لكنه ذات يوم، وبعد أن أنهكه الترحال كما يبدو، جلس وبدأ كتابة «الأيام الإسبانية»، وربما على سبيل التسلية، ثم مات بعد «إنجازها» بعام ونصف العام. واللافت هنا هو أن المخطوطة الأصلية التي وضعها بوتوسكي للكتاب بالفرنسية قد فقدت، ثم ظل ما تبقى منها - وإلى فترة قريبة من الزمن - شبه مجهول تماماً، بحيث إن أحداً لم يأتِ على ذكره. والكتاب كما عاد وبدأ يكتشف لاحقاً. وفي شكل متتابع، يقدّم نفسه على شكل مغامرات متتالية غريبة ومتنوعة، يعيشها في شكل حكايات داخل الحكايات (على نسق ما يحدث في كتاب «ألف ليلة وليلة») ضابط شاب من أصل هولندي، يقوم برحلة داخل إسبانيا. والحكايات تتحلق في الأساس حول مغامرات التجوال ومطاردات الجن التي يعيشها هذا الضابط الشاب مع شقيقتين سنفترض في النهاية أنهما شيطانان مرتبطان بكوكب الجوزاء. أما الحكايات فموزعة على أيام، وداخل الأيام ثمة فصول وتقاطعات. الضابط الشاب المعني هو ألفونس دي فوردن ذو الأم الإسبانية، الذي يتعين عليه خلال رحلته إلى مدريد أن يقطع السييرا ماديرا التي كانت خالية خاوية في ذلك الحين، إلا من البوهيميين وقطاع الطرق. وهو عند أول رحلة يجد نفسه أمام لصّين ميتين صلبا على خشبة. ثم يصل إلى نزل هجره الناس لأنه مسكون من قبل الجن، كما يقول أهل المنطقة. وعلى رغم هذه الأخبار والتحذيرات يقرر ألفونس أن يمضي ليلته هناك. وعند منتصف الليل يوقظه من نومه حضور الفتاتين الرائعتين أمينة وزبيدة اللتين تقولان له إنهما ابنتا عمه، وتعلنان حبهما له وتعدانه بالثروة والحياة الحلوة إن هو اعتنق دينهما. والثروة هي عبارة عن كنز من الذهب مخبّأ في الجبل. لكن دي فوردن يرفض، ويعود إلى النوم بين الفتاتين ليفيق مرعوباً بعد لحظات ويجد أنه معلق بين اللصين الميتين. وهنا يسارع بالهرب ليلتقي بناسك في الصحراء يجده وقد آوى عنده شخصاً مجنوناً قال إنه قد حدث له ما حدث للضابط الشاب. وهكذا تبدأ بالنسبة إلى هذا الضابط الرحلة العجيبة التي تروى لنا، والتي تسير دائماً في تكرار يبدو الأمر معه وكأنه لعبة مرايا مذهلة. غير أن المغامرات تختلف وتقطعها حكايات ولقاءات تجعل الكتاب كله يبدو مثل تلك الدمية الروسية التي تخفي داخلها دمية أخرى ثم ثالثة وهكذا إلى ما لا نهاية. عندما كتب يان دي بوتوسكي هذا النص، كان قد تجاوز الخامسة والثلاثين من عمره، وكان قد وضع الكثير من كتب الرحلات، بل كانت صارت له في أدب الرحلات فلسفة عبّر عنها بعبارة مشهورة له تقول: «من المؤسف أن الرحالون لا يستخدمون في مجال ملاحظتهم لما يزورونه، سوى النظارات التي كانوا أحضروها معهم من ديارهم، مهملين ضرورة أن يعيدوا تقطيع وصقل زجاجات النظارة لتتلاءم مع البلدان التي يزورونها». والحال أن كتابة بوتوسكي هذا النص الغريب عن إسبانيا، واستيحاء من تراثها الشرقي، وباللغة الفرنسية، يمكن أن يعتبر من جانبه صقلاً لنظاراته. مهما يكن من الأمر فإن بوتوسكي حين كتب «الأيام الإسبانية» التي ستحمل لاحقاً اسم «مخطوطة وجدت في سرقسطة»، انطلق فيها، كما سيفعل كتاب كثيرون من بعده، ليس أقلهم أمين معلوف، في «سمرقند» مثلاً، من حكاية ضابط في الجيش الفرنسي يعثر خلال حصار سرقسطة في عام 1809، على مخطوطة مرمية في بيت مهجور. وهذه المخطوطة هي التي تروي مغامرات الضابط الغالوني الشاب في سيرامورينو. وهذه المغامرات تدوم 66 يوماً، وكل يوم يروي حكاية، وغالباً من طريق شخصيات يبلغ عددها الإجمالي 32 شخصية، ويلتقيها الضابط خلال رحلته. والطريف أننا في نهاية الأمر لن نجد أنفسنا أمام حكاية غرائبية طالما أن المؤلف يحرص على أن يبرر كل الأحداث التي شاهدناها ويعطيها معقولية مفاجئة... وواقعية. يان دي بوتوسكي كما أشرنا، عالم آثار بولندي ومؤرخ، وأحد مؤسسي علم الإناسة السلافي. وهو خلال سنوات حياته غير الطويلة تجوّل بين البلدان الأوروبية وآسيا وأفريقيا، حيث رصد الأعراق واللغات وتنبه خصوصاً إلى التراث الشفهي للشعوب ووضع عن ذلك كله مؤلفات عدة لعل أهمها «التاريخ البدائي لشعوب روسيا» (1802) و «الأطلس الأركيولوجي لروسيا الأوروبية» (1803) وهو وضع إلى هذا كتباً عن رحلات قام بها إلى تركيا ومصر وهولندا وإسبانيا وغيرها. وخلال فترة من حياته خاض دي بوتوسكي العمل السياسي، ما أورده موارد الإفلاس في بلده بولندا، وجعله مكتئباً. وهذا الاكتئاب لا بد سيلاحظه قارئ كتابه الفذ الذي نقدمه هنا. ورحل دي بوتوفسكي عن عالمنا في عام 1815، من دون أن يدري أحد شيئاً في ذلك الحين، عن الرواية العجيبة التي كتبها والتي ستصنع شهرته لاحقاً بأفضل مما فعلت كتبه الأخرى مجتمعة. [email protected]