لو ألقينا نظرة خاطفة على البيانات الصادرة عن وزارات الداخلية في دول الاتحاد الأوروبي، سنجد أن معدلات الإرهاب ووتائره في أوروبا تتراجع وتشهد انخفاضاً ملموساً، فالأرقام الواردة في تقرير صادر عن منظمة الشرطة الأوروبية «يوروبول» تشير إلى إحباط 600 محاولة لتنفيذ عمليات إرهابية في عام 2007 مقابل 174 عملية بعد أربع سنوات أي عام 2011. هيئات ووكالات الأمن القومي في الدول ال27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مستنفرة منذ 11 أيلول (سبتمبر) عام 2001 وهي تتعاون في شكل واسع وتنسق معلوماتها الاستخباراتية، وإن بدرجات مختلفة بين دولة وأخرى، وتبقى الأكثر توجساً واستنفاراً بريطانيا وألمانياوإسبانيا كونها تعرضت لهجمات إرهابية كبيرة. في الولاياتالمتحدة وعلى رغم وجود منظومة عليا للأمن تضم 16 وكالة للأمن والاستخبارات العامة ترقد على إمكانات هائلة من القدرات المالية وتمسك بين أيديها أحدث التقنيات الحساسة التي مكنتها من منع أي خرق أمني خطير وكبير حتى الآن، إلا أن مسؤوليها ينامون بعيون مفتوحة وآذان صاغية على وقع هواجس من مفاجأة عاتية محتملة الوقوع في أي لحظة تهز كياناتهم الداخلية بمقدار ما توقعه من آثار تدميرية، لأن الإرهاب الدولي مثل الماء يحبو باحثاً عن شقوق تدله عليها تصدعات أخرى في الجدران العالية مثلما حصل في بلغاريا في 14 تموز (يوليو) الماضي حينما قام مجهول يقال إنه انتحاري بتفجير باص ينقل سياحاً إسرائيليين في مطار مدينة بورغاس السياحية على البحر الأسود متسبباً في قتل ستة منهم وسائق الحافلة الذي صادف أنه مسلم بلغاري من طائفة (البلغار المحمديون) أو ما يعرف باسم «البوماق». والمثير أن لا أحد في الأجهزة البلغارية ولا في الأوساط الإعلامية والبحثية أثار التساؤلات أو الشكوك حول كيفية تشغيل مسلم في شركة مختصة بنقل السياح الإسرائيليين، ولعل الأكثر مدعاة للاستغراب والإثارة هو أن كبار مسؤولي الدولة شاركوا في فاعلية تضامن مع الضحايا الإسرائيليين ولكن لا أحد منهم شارك في تشييع جنازة السائق المسلم الذي كان الضحية السادسة للتفجير الإرهابي! وحالة بلغاريا بالطبع لا تشبه الولاياتالمتحدة أو بريطانيا أو حتى إسبانيا، لأن الضربة كما فهمها المسؤولون الحكوميون والأمنيون وفسرها المحللون السياسيون وخبراء مكافحة الإرهاب موجهة ليس لبلغاريا بمقدار ما كانت تستهدف إسرائيل ووجدوا فيها أصابع «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني أو حزب الله، وما دام المستهدف هنا هو إسرائيل، فإن هذا يتيح القول إن التهديد الأمني لبلغاريا عرضي ويفرض إجراءات استثنائية حاسمة وفورية. على أي حال فإن السؤال الأكثر إلحاحاً الآن هو عما إذا كانت أجهزة الأمن الأوروبية توصلت إلى استنتاجات محددة بعد تفجيرات قطارات مدريد عام 2003 ومترو لندن عام 2005 ومحاولة تفجير قطارين في كولون الألمانية عام 2006. دراسة رد فعل الدول الثلاث تعكس أن بريطانيا التي ليس لها ماضٍ شمولي وباع طويلة في الديكتاتورية وتمتلك خبرة ثرية في دروب ومسارات مكافحة الإرهاب اتخذت بعد تفجيرات 2005 إجراءات حازمة وتواصل التعامل بيقظة وحذر يفوق كل الدول الأخرى في أوروبا القديمة والجديدة. وقامت إسبانيا ذات الماضي الملطخ بآثار الديكتاتورية تحت وطأة كارثتها بمراجعة منظومة قوانينها و (أغنت) محتواها بإجراءات تقيدية استثنائية على الحريات لم تشهدها البلاد حتى في زمن المستبد الأكبر فرانكو. ولكن، هل هذه الإجراءات الاستثنائية بطبيعتها ومحتواها هي ما ساهم في درء وقوع هجمات إرهابية جديدة في أوروبا خلال السنوات المنصرمة؟ يرى الخبير في معهد «ديموس» البريطاني جيمي بارتليت «أن هذا ربما يكون بفعل تركيبة معقدة من العوامل المختلفة أكثر مما هي بفعل الاستناد إلى مجموعة وسائل جديدة منها توجيه اهتمام أكبر للخطر الإرهابي المحتمل وعدم حرفية من يقوم بتنفيذه من الانتحاريين أو المهاجمين، لا سيما بعد الضربات الموجعة التي تعرض لها تنظيم (القاعدة) وخسارته ملاذاته وقواعده في أفغانستان واضطراره إلى البحث عن مناطق بديلة في اليمن ومنطقة الصحراء الأفريقية التي أضحت هي الأخرى تحت مرمى الطائرات الأميركية من دون طيار «درون». ولكن خسارة القواعد وتجفيف مصادر الأموال لا يعني في مطلق الأحوال انحسار عدد الراغبين في تفجير أنفسهم في سبيل إعلاء راية الإسلام في الغرب، ووفقاً لما يقوله الخبير الألماني في مكافحة الإرهاب الدكتور تورسترن بروس فان «إن الفشل والإخفاق في تنفيذ الكثير من العمليات الإرهابية ونجاح عناصر الأمن في إحباطها تعود إلى أخطاء ارتكبها المنفذون أنفسهم أو لسوء التنظيم أو ضعف القدرات الفنية والتقنية». منظومات الفعل ورد الفعل لقد سارعت ألمانيا مباشرة بعد 11 أيلول 2001 إلى إعادة هيكلة هيئاتها وأجهزتها الأمنية على رغم أنها لم تتعرض لأي عمل إرهابي من قوى خارجية مثلما حصل في الولاياتالمتحدة وبريطانيا وإسبانيا. وما أثار انتباه المسؤولين الألمان آنذاك هو أن العدد الأكبر من منفذي العمل الإرهابي في واشنطن ونيويورك عاشوا وأقاموا ودرسوا وعملوا في مدن متعددة في ألمانيا. أحد أهم القرارات التي اتخذت لتعزيز الأمن القومي للبلاد تمثل في استحداث هيئة جديدة تتولى مهمة تنسيق أقوى إجراءات الأمن وأفضلها على مستوى الأقاليم والمقاطعات والدولة ككل، وذلك لأن قوى وهيئات الأمن في البلاد هي من الناحية الإجرائية والإدارية منفصلة ومتعددة ليس بسبب الطابع الفيديرالي وحده، وإنما بفعل الذكريات المؤلمة من الحقبة النازية. وليس هذا فقط، فقد اتخذت الحكومة الفيديرالية في أيار (مايو) 2004 قراراً بإنشاء مكتب للدفاع عن السكان وتقديم المساعدة والإغاثة عند حدوث الطوارئ والكوارث، وفي العام نفسه تم استحداث مركز عام لمكافحة الإرهاب لتسهيل عملية الحصول على المعلومات الأمنية والاستخباراتية المتجمعة من الدوائر والأجهزة الأمنية المتعددة. ولم تمضِ إلا ثلاث سنوات حتى وجدت الحكومة أن هناك حاجة ملحة لتطوير هذا المركز وقامت في عام 2007 باستحداث قاعدة مركزية للمعلومات الأمنية التي تتلقاها من كل أجهزة الشرطة ودوائر الأمن العامة في عموم البلاد والتي ليس لها الحق في العمل مجتمعة، وفي هذه القاعدة تحفظ كل البيانات والمعلومات التفصيلية عن الجماعات الإرهابية والمنظمات الدينية الإسلامية المتشددة والعنفية والمشتبه بهم بالانتماء أو التعاون مع هذه الجماعات. وتيرة التشدد الألماني في الإجراءات الأمنية وصوغ مفهوم الوقاية من الإرهاب تصاعدت بعد إحباط محاولة لبنانيين في عام 2006 تفجير قطارين في محطة كولون، إذ جرى تعديل جذري في منظومة القوانين تجرم التحضير لعمليات تهدد أمن البلاد وسلامة حياة أفراد المجتمع وتفرض أقصى العقوبات على الأشخاص الذين يحملون جنسيات ألمانية وانتموا إلى منظمات عنفية وتدربوا في معسكراتها حتى وإن لم توجه لهم اتهامات محددة. وذهبت التعديلات التشريعية إلى حد تحديد آليات رقابة صارمة على الهيئات والجمعيات الدينية، وحظر نشاطات تلك التي تنتهج ممارسات وتقوم بفاعليات تتعارض مع بنود دستور الدولة الألمانية. بريطانيا هي الأخرى تشددت في إجراءاتها لمكافحة الإرهاب بتوسيع صلاحيات الشرطة وتقييد الكثير من الحريات الشخصية حيث أضحى باستطاعة سلطات الأمن اعتقال المشتبه بهم بالارتباط بالإرهاب ومنظماته لمدة 28 يوماً من دون توجيه أي اتهام شكلي لهم بشرط أن يتم ذلك بموافقة مسبقة من قاضي التحقيق. والجديد في ملاحقة المشتبة بهم بالإرهاب في المملكة هو شمول كل من يدعم أو يساهم في أي شكل من الأشكال في العنف بعقوبات قاسية. لقد أدركت حكومة صاحبة الجلالة وفق بارتليت أن «من المستحيل قتل كل البعوض، والأفضل من ذلك هو تجفيف المستنقع» ولهذا فقد بدأت بتمويل جماعات دينية أصولية بشرط واحد لا غير هو أن لا تكون عنفية أو جهادية متطرفة وفي المقابل أدركت الجاليات الإسلامية أيضاً أن الإرهاب يضرها ويسيء للإسلام ما جعلها تبدي مزيداً من المرونة في التعاون مع الحكومة ضده. إلا أن ما يميز الجهد الإسباني ضد الإرهاب الذي استفز أجهزتها وكبار مسؤوليها بعد جريمة قطارات مدريد هو تغيير وتبديل وجهة ومسار العمل والجهود الأمنية. ويقول البروفيسور فرناندو ريناريس من جامعة (ELcano Royal Institute) في مدريد، والعضو في (Council on Global Terrorism) والخبير في مكافحة الإرهاب في منظمة الأممالمتحدة «إن الدولة الإسبانية أدركت بعد عام 2003 أن الإرهاب الدولي يشكل تهديداً مختلفاً عن أخطار الجماعات المتطرفة وتهديداتها في الداخل». ولكن ما يثير استغراب البروفيسور ريناريس ودهشته هو نجاح الإرهابيين في عام 2003 في مدريد، وفي عام 2005 في لندن على رغم أن هذين البلدين هما تقليدياً يمتلكان منظومات أمنية قوية للغاية مقارنة بالدول الأخرى في أوروبا، إلا أن هذين الحدثين الخطرين أظهرا ضعفهما البالغ وعدم فاعليتهما في شكل فرض الحاجة إلى إعادة نظر شاملة وجذرية في الصياغات والقواعد والمسارات التي تعتمدها الأجهزة الاستخباراتية لتجميع المعلومات وتحليلها وصولاً إلى الاستنتاجات التي تستند إليها الإجراءات الوقائية والحامية. الإرهاب ورصاصة القتل الفضية منظومة الأمن الأوروبية «الإسمنتية» تعرضت للمرة الثالثة إلى التصدع على خلفية الاختراق الأمني الكبير في مطار سرافوفو في مدينة بورغاس البلغارية ... يبقى الاستنتاج الأكثر أهمية هو أن رصانة عمل منظومات الأمن في الدول الأوروبية التي يرتبط بعضها مع البعض الآخر بنسيج من قواعد التنسيق المباشر والتبادل الفوري للمعلومات الاستخباراتية وبوقوفها على قاعدة صلبة من بنوك المعلومات والبيانات والأرقام والصور والسير الذاتية للإرهابيين المحتملين وداعميهم لوجيستياً، لا يمكن أن تشكل لوحدها ضمانة لمنع ودرء وإحباط أي عمل إرهابي محتمل الوقوع الآن أو غداً أو في المستقبل القريب وربما البعيد. ويمكن ضرب الأمثلة الكثيرة على دقة هذا الاستنتاج وأحدها هو أن اللبنانيين اللذين كادا ينجحان في تفجير القطارين في كولون الألمانية عام 2006، استطاعت كاميرات المراقبة الإلكترونية التقاط حركاتهما خلال وجودهما في المحطة من دون أن يلفت ذلك انتباه من يراقب هذه الكاميرات ويرصد سلوك من يتحرك في المحطة وتصرفاته، وهو ما تكرر مع مفجر مطار سرافوفو البلغاري الذي صوّرته كاميرات صالة القادمين وسجلت خطواته المثيرة للشك ذهاباً وأياباً ولمرات عدة في مسافة ضيقة لا تتعدى الأمتار الأربعة وبحركات عصبية حاملاً على ظهره حقيبة رياضية تحتوي على المتفجرات من دون أن يثير انتباه من يراقب من وراء شاشات العرض ما يحدث ولم تستفز في مخيلته أية شكوك حول أسباب وجود شخص يحمل حقيبة على ظهره في صالة انتظار القادمين وليس المغادرين، ما يؤكد أن عنصر المبادرة يبقى في غالبية الأحوال في يد العدو المتربص. * كاتب وصحافي عراقي مقيم في صوفيا