مضى اثنا عشر يوماً على تفجير باص السياح الإسرائيليين في مطار بورغاس البلغاري، (في 18 الجاري)، والذي ذهب ضحيته خمسة قتلى و33 جريحاً من الإسرائيليين بالإضافة الى قتيلين آخرين هما سائق الباص البلغاري ومنفذ العملية الانتحاري الذي لم تحدد (أو لم تعلن) هويته بعد. وحتى الآن لم يعلن أي طرف مسؤوليته عن العملية. ومع ذلك، وقبل ان يتم سحب المصابين من ساحة الانفجار، بدأت البروباغندا الإسرائيلية، وعلى رأسها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو شخصياً، باتهام إيران و «حزب الله» اللبناني. وقال نتنياهو ان إيران بالتعاون مع «حزب الله» قاما بعمليات إرهابية في اكثر من عشرين بلداً. وتوجهت إسرائيل نحو بروكسيل طالبة من الاتحاد الاوروبي ادراج «حزب الله» على قائمة المنظمات الإرهابية. وفي 20 تموز (يوليو) الجاري اتصل باراك اوباما برئيس الوزراء البلغاري بويكو بوريسوف، معلناً دعم الولاياتالمتحدة الأميركية جهود بلغاريا في مكافحة الإرهاب وفي دعم الحلف الأطلسي. وفي 24 تموز وصل الى صوفيا جون برينون، مستشار اوباما لشؤون الأمن القومي والدفاع، حاملاً رسالة خاصة من الرئيس الأميركي الى رئيس الوزراء البلغاري، ومن اجل توثيق التنسيق بين الأجهزة البلغارية والأجهزة الاستخبارية والأمنية الأميركية. لكن الطرف الأميركي كان أكثر حرصاً من اسرائيل، في توجيه اتهام مكشوف الى ايران و «حزب الله». وقد رد رئيس الوزراء البلغاري على الموقف الاسرائيلي وبعض التصريحات المشككة بعدم قدرة بلغاريا على حماية أراضيها، بطريقة غير مباشرة، قائلاً «أهلاً وسهلاً بالسياح العرب واليهود وجميع السياح الآخرين. نحن موجودون على مدخل العالم العربي نحو أوروبا، ولا يمكن ان نسمح لأنفسنا بأن نتخطى الحدود». «أما بالنسبة الى إسرائيل، أو الولاياتالمتحدة، أو روسيا، او بريطانيا فالأمر يختلف... هناك عداء، موجود من وقت طويل، ونحن لا نتدخل في هذا العداء». «وحتى الآن ليس لدينا أدلة على منفذي الاعتداء في بورغاس». وفي السياق نفسه قال وزير الخارجية نيقولاي ملادينوف «الى ان يتم التحقيق الذي نجريه، فنحن لسنا على استعداد لأن نوجه اصبع الاتهام الى أي كان». وفي 24 تموز وصل الى صوفيا وزير السياحة الاسرائيلي ستاس ميسيجنيكوف، الذي التقى الجالية اليهودية البلغارية لتوحيد المواقف معها، كما التقى رئيس الجمهورية البلغارية روسين بليفنيلييف ورئيس الوزراء بويكو بوريسوف ووزير الاقتصاد وعدداً من الوزراء الآخرين. ومثل رئيسه نتنياهو شن ميسيجنيكوف حملة على ايران و«حزب الله». لكن بعض العارفين في صوفيا يقولون ان المهمة الأساسية لزيارة ميسيجنيكوف ليست الضغط، غير الممكن، على بلغاريا، لقبول الموقف الإسرائيلي من حادث التفجير، بل على العكس ان هدف الزيارة هو امتصاص الاختلاف في المواقف والتأكيد للجانب البلغاري بأن السياح الإسرائيليين سيستمرون في المجيء الى بلغاريا، وهو ما تحتاجه بلغاريا اقتصاديا. وتفيد الإحصاءات الرسمية ان عدد السياح الإسرائيليين بلغ سنة 2011 اكثر من 130 الف سائح. وفي الأشهر الستة الاولى من عام 2012 زاد هذا العدد بنسبة 11 في المئة. أما وزير السياحة الإسرائيلي فقال في احد تصاريحه ان عدد السياح اليهود يبلغ 170 ألفاً سنوياً وهو رقم قابل للازدياد. وفي الأيام الأربعة الأولى بعد حادث التفجير وصلت الى بلغاريا 32 رحلة طائرة تشارتر من السياح كانت كلها مكتملة العدد، كما وصلت الى مرفأ بورغاس باخرة تحمل 700 سائح منهم 500 يهودي، وقد قطعت السلطات البلغارية الطرق الى المرفأ لحظة وصول الباخرة ونزول الركاب. وأفاد مصدر بلغاري فضل عدم الكشف عن هويته ان عدد الداخلين (المسجلين) الى بلغاريا من اليهود الإسرائيليين، قد فاق عدد العراقيين (الذين كانوا يتصدرون لائحة الوافدين الأجانب منذ الحرب على العراق سنة 2003). ويضيف المصدر ان مدة مكوث أولئك الداخلين من اليهود تزيد على الأسابيع فلا ينطبق عليهم وصف السياح العاديين. ويضيف المصدر ان العدد الأكبر من السياح الإسرائيليين ذوي الإقامات التي تتعدى الأسابيع هم من اليهود الروس، وهم يتكلمون اللغة الروسية فقط ولكنهم يقدمون انفسهم على انهم اسرائيليين، ويمتلكون جوازات سفر إسرائيلية. وهذا ما يدفع الى التفكير في ان السلطات الإسرائيلية المنزعجة من النسبة الكبيرة لليهود الروس في إسرائيل واحتمالات تأثيرهم على السياسة في ما لا يرضي اليهود الغربيين المسيطرين حتى الآن على إسرائيل، بدأت تعمل على إعادة ترحيل قسم من اليهود الروس وترتيب اقامتهم في بلغاريا، بعد منحهم الجنسية الإسرائيلية، بهدف اما اعادتهم الى روسيا (في حال نشوء ظروف «ملائمة»)، كي يشكلوا «جالية إسرائيلية» هناك، وأما إبقائهم في بلغاريا وخلق نوع من «مستعمرة إسرائيلية» في بلغاريا. وهذا ما يفسر اقدام المتمولين اليهود الروس الكبار (من يسمون الاوليغارشيا، وعلى رأسهم الملياردير ليف ليفايف) على شراء الأراضي والعقارات في بلغاريا بكثافة، ووضعها تحت تصرف «السياح» اليهود الإسرائيليين. الوجود الاسرائيلي في بلغاريا وبصرف النظر عن الجهة، الداخلية البلغارية المعادية لليهود او الخارجية، التي نفذت التفجير، فإن هذا التفجير سلط الضوء بقوة على الوجود اليهودي الاسرائيلي في بلغاريا وتكثيفه. وهو ما يجد انعكاسه على التصرف الأرعن للحكومة الاسرائيلية والتصرف المتذبذب للحكومة البلغارية. ونشير هنا الى الوقائع التالية: 1- يعمد اليهود البلغار - الاسرائيليون، الذين رحلوا الى اسرائيل سنة 1949، وعددهم حوالى 50 الفاً حينذاك، الى المطالبة باستعادة املاكهم في بلغاريا، التي كانوا قد باعوها وقبضوا اثمانها في حينه، وهم يدعون انهم اجبروا على الرحيل وعلى بيع أملاكهم بأثمان بخسة. وهم لا يعودون كي يتسلموا أملاكهم ويستفيدوا منها او يبيعوها، بل يسلمونها الى جهات يهودية معنية كمنظمة «شالوم» اليهودية البلغارية الصهيونية. 2- تعمد إسرائيل الى الضغط على بلغاريا للسير في ركاب سياستها العدوانية، ولكن ليس الى حد ان تخسر مشروعها «الإسكاني» في بلغاريا. 3- لا تريد الحكومة البلغارية ان تخسر المداخيل الكبيرة التي تؤمنها السياحة و «الاستيطان» الإسرائيليان، وفي الوقت ذاته لا تريد ان تدخل في مواجهة مكشوفة مع العالم العربي ومع روسيا، مما يكبدها خسائر اكثر بكثير مما تكسبه من إسرائيل والاوليغارشيا (المليارديرية) اليهودية. انطلاقاً من هذه المعطيات يمكن القول انه: اذا كان تفجير بورغاس قد افزع إسرائيل وكشف خاصرتها الضعيفة بأن سياستها العدوانية ستجعل يهود العالم كلهم في خطر دائم على حياتهم وأعمالهم؛ فإن هذا التفجير ذاته قد جاء لينبه الدولة البلغارية الى ضرورة المحافظة على استقلالها، وان الانجرار وراء الإغراءات الإسرائيلية لن يكون ذا فائدة لبلغاريا في الحساب الأخير.