«يتزاحمون على حواجز التفتيش ومعابر الحدود، يتكدسون في صالات الانتظار ومكاتب السفر، يبحثون عن اي طريق يحملهم بعيداً من البلاد التي استوطنوا فيها منذ 1800 عام. توقفت كنائسهم عن استقبال المصلّين، وما عادت اجراسها تقرع». هكذا يلخص القس العراقي بنيامين بطرس، قصة الرعب التي عاشها مسيحيو العراق، منذ دخول تنظيم «داعش» الى مدينة الموصل في 10 حزيران (يونيو) الماضي، وحتى منتصف آب (أغسطس) 2014. بطرس الذي افترش رصيف معبر ابراهيم الخليل بانتظار تأشيرة الدخول الى الاراضي التركية، يعتقد أن أحداً من المسيحيين لم يعد يفكر في البقاء في العراق بعدما عجزت الدولة عن حمايتهم من تنظيم «داعش»، وتخلت قوات البيشمركة الكردية عن مناطقهم في سهل نينوى من دون قتال، وشارك في قتلهم ونهب ممتلكاتهم مواطنوهم في مدينة الموصل، وباتت كردستان الملاذ الاخير للمسيحيين، مهددة من تنظيم «داعش» الذي بات على مقربة 35 كيلومتراً منها. مثله تماماً يعتقد القس لازار متي، ففي الماضي كان القساوسة يتشبثون ببقاء المسيحيين في العراق لأنه بلدهم التاريخي، لكن الآن «لم يعد ثمة من يستطيع حماية المسيحيين، وبقاؤهم في العراق يعني انهم سيكونون على الدوام عرضة للموت، سواء على يد تنظيم «القاعدة»، او «داعش»، او أياً كان الاسم الذي سيتخذه المتشددون الاسلاميون في المستقبل». يجمع مسيحيون هاربون من الموت، قساوسة، سياسيون مسيحيون، عشرات الشهادات التي جمعها التحقيق خلال شهر كامل من رحلة التيه المسيحي، على أن بقاء المسيحيين في العراق صار في عداد «المستحيل» بعدما وقعوا مع باقي الاقليات ضحية الصراع بين المكونات الرئيسة في العراق (الاكراد والسنّة والشيعة)، وفقدت الدول الغربية صدقيتها في حماية الاقليات ولم تتحرك لحماية قرابة مليون مسيحي وتركماني وإيزيدي وشبكي، بل تحركت فقط حينما اصبحت مصالحها الاستراتيجية مع اقليم كردستان مهددة. من موطن المسيحية الاول، الى المجهول رحلة القس بطرس لم تكن الاولى، فقبلها بنحو شهر هرب بطرس مع اكثر من 10 آلاف مسيحي من مدينة الموصل التي تعد اول موطن للمسيحية في العراق، مستفيدين من عفو خاص من خليفة تنظيم «داعش» ابو بكر البغدادي، يخيرهم بين دخول الاسلام، او دفع الجزية، او الموت، أو ترك المدينة قبل ظهيرة يوم السبت 19 تموز (يوليو). بعدها، عاد القس بطرس للهرب من بلدة تلكيف المسيحية التي التجأ اليها موقتاً، متوجهاً نحو مدينة دهوك الكردية. يومها كانت قوات البيشمركة الكردية تنسحب باتجاه كردستان تاركة خلفها قرابة 200 الف ايزيدي وهم يتعرضون للذبح والقتل والتشريد وسبي النساء على يد تنظيم «داعش». لاحقاً، عاد القس بطرس ليغادر مدينة دهوك باتجاه معبر ابراهيم الخليل الحدودي بعد ساعات من وصول مقاتلي «داعش» الى مشارف المدينة. رحلة التيه المسيحي تشبه مسارات هجرة القس بطرس، قصة الهجرة التي تاه فيها أكثر من 100 ألف مسيحي بعيداً من مدينة الموصل وبلدات سهل نينوى، ويلخص القس سيمون دانيال قصة مطاردة مواطنيه المسيحيين وتهجيرهم، بأنها «نسخة مكررة من قصة يهود العراق». فهؤلاء، تلاشوا تماماً من البلاد خلال أقل من عقدين، لكن النسخة المسيحية من القصة كانت أكثر إذلالاً وقسوة، وقد لا تحتاج حتى الى عامين لتكتمل». بدأت الحكاية كما يقول القس سيمون دانيال، حين دخل تنظيم «داعش» الى مدينة الموصل يوم 10 حزيران وانهارت القوات العراقية بشكل مفاجئ وانسحبت تاركة المدينة تحت رحمة مقاتلي التنظيم. يتذكر القس دانيال ان سكان الموصل رحبوا يومها بمقاتلي التنظيم، وانضم الآلاف منهم اليه، وفيما هربت غالبية الاسر المسيحية اسوة بالأسر الشبكية والتركمان الشيعة منذ الايام الاولى لدخول «داعش»، عادت مئات الاسر المسيحية بناء على تطمينات من اهالي الموصل وتنظيم «داعش» بأن احداً لن يتعرض لهم. يعتقد راعي احدى الكنائس المسيحية في الموصل، القس عزت نجيب يوسف، ان المسيحيين تعرضوا للخديعة، وأن تنظيم «داعش» ومن يسانده «لم يكونوا جديرين بالثقة على الاطلاق». يقول يوسف ان الكنائس المسيحية حذرت رعاياها من العودة الى المدينة لأن «داعش» قد يرتكب بحقهم مجزرة حين يتمكن من فرض سطوته بالكامل، وانه اذا كان رحيماً بهم فسيكتفي بأن يجبرهم على دخول الاسلام، أو دفع الجزية، او الرحيل. كانت توقعات الكنائس المسيحية كما اثبتت الاحداث، مطابقة للواقع تماماً، كما يقول القس راعي احدى الكنائس الارمنية في الموصل، فخلال اقل من اسبوع من دخول «داعش»، اوقف وكلاء الحصة التموينية تزويد المسيحيين بحصتهم التموينية، ثم لاحقاً، توقف بعض اصحاب مولدات الطاقة الكهربائية الاهلية عن تزويد المسيحيين بحصتهم من الطاقة، ثم طلب منهم السكان الالتزام بالزي الاسلامي «احتراماً لمشاعر المسلمين». تتذكر مدرسة الرياضيات نادين صليوا ان وكيل الحصة التموينية في حي الحدباء في الموصل، قال لها بالحرف الواحد: «انتم نصارى ولا نعرف إن كانت الدولة الاسلامية (داعش) ستشملكم بالحصة التموينية ام لا؟». صليوا تعتقد ان من الممكن للمسيحيين ان يفهموا لماذا تريد «داعش» اضطهادهم وتهجيرهم، لكنهم لن يفهموا ابداً لماذا ساعدهم بعض أبناء الموصل. يقول الدكتور فارس كمال نظمي، استاذ علم النفس في جامعة صلاح الدين إن الشخصية المسيحية هي شخصية مسالمة في طبيعتها، لهذا لا يمكن ان نتوقع منهم سلوكاً عنفياً في المجتمعات التي يعيشون فيها، وهذه النقطة كانت غالباً ما تشجع الآخرين على استهدافهم. يعتقد الأب متى البنا راعي كنيسة ام النور، بأن التشدد تسرب الى بعض طبقات المجتمع الموصلي منذ دخول القوات الاميركية الى العراق عام 2003، ولهذا كانت الموصل من اوائل المناطق التي استُهدف فيها المسيحيون في العراق: «انا نفسي تركت الموصل عام 2004 بعدما عرفت مبكراً ماذا يمكن ان يفعلوا بالمسيحيين الذين يعتقدون انهم كفرة». يضيف البنا، ان هذه ليست المرة الاولى التي يتعرض فيها المسيحيون للتهجير في الموصل، حدث هذا عام 2007 ثم مرة اخرى عام 2008 حين قطعوا اجساد بعض القساوسة وقتلوا القس فرج رحو، ثم لاحقاً هاجروا من بغداد والموصل بعد احداث كنيسة النجاة، وموجات تفجير الكنائس خريف عام 2011. باختصار، كما يقول الاب البنا، كان معظم المسيحيين يعرفون انهم سيتركون الموصل يوماً ما، لكن لم يخطر في بالهم أبداً انها ستكون بهذه الطريقة المذلّة. الجزية جاءت اللحظة الصادمة كما يقول الناشط المسيحي ميلاد منصور، حين ذاع تنظيم «داعش» عبر مكبرات الصوت فجر يوم الجمعة 18 تموز (يوليو)، أن على المسيحيين الاختيار بين دخول الاسلام، او دفع الجزية، او حد السيف، او الرحيل قبل الساعة 12 من ظهر يوم السبت 19 تموز. سارع عدد من المسيحيين الذين سمعوا نداءات «داعش» الى المغادرة صباح يوم الجمعة، الآخرون لم يكونوا على يقين بأن «داعش» سيقوم فعلاً بتنفيذ تهديداته. لكن مع بدء صلاة الجمعة، تأكد الجميع من ان «داعش» كان فعلاً قد اتخذ قراره بطرد المسيحيين. يقول محمد مريوان، وهو كردي من محلة الحدباء في الموصل، إن أئمة اعادوا قراءة البيان مجدداً عند الظهيرة، ونبهوا الموصليين الى تجنب مساعدة النصارى لأن قساوستهم رفضوا الحضور للتباحث مع قادة الدولة الاسلامية حول مستقبل المسيحيين في الموصل. مريوان يقول انه سارع فور انتهاء الصلاة لإبلاغ جاره ستيفن يلدا بضرورة مغادرة المدينة على الفور. عند العصر كان ستيفن وعائلته قد غادروا الموصل. قضى معظم المسيحيين، كما يقول الدكتور سعد كوركيس ليلة 18 على 19 تموز، وهم يحزمون حقائبهم ويرزمون حاجاتها المهمة استعداداً للرحيل في صباح اليوم التالي، «كانت ليلة مرعبة، وحزينة، تخيل نفسك وأنت تنظر الى جدران بيتك وممراته ونوافذه وأنت تدرك تماماً انك لن تراها بعد ذلك ابداً». في الطريق الى البوابة الشمالية لمدينة الموصل، كان القلق يفتك بأستاذة الكيمياء العضوية سارة يوسف، «كنت اتوقع انهم سيقتلونني مع زوجي وأطفالي ولن يسمحوا لنا بالإفلات من قبضتهم». لكن بخلاف ما كان يتوقعه المسيحيون الهاربون، كما يقول راعي الكنيسة الارمنية، فقد سمح المسلحون لهم بالخروج من دون تعريضهم للقتل او الضرب «اضطررت للمغادرة متأخراً بعدما تأكدت من ان كل ابناء كنيستي غادروا المدينة، وأظن ان المسلحين عرفوا انني رجل دين على رغم ارتدائي ملابس عادية، لكنهم لم يؤذوني». يتذكر ستيفن متي ان المسلحين اوقفوه على الحاجز الذي تجمعت حوله اكثر من 15 سيارة للمسلحين، طلبوا من زوجته وأطفاله ان يترجلوا من السيارة وأمروه هو بأن يركن سيارته إلى جانب الطريق ويجلب مفاتيحها معه، «حين عدت لألتحق بعائلتي، وجدتهم يفتشون حقائب زوجتي وبناتي، اخذوا منا كل المصوغات الذهبية وكل ما معنا من نقود، وطلب مني مسلح مكشوف الوجه يتحدث اللهجة العراقية مفاتيح السيارة، وأمرني بأن آخذ عائلتي وأرحل... فعلت هذا بصمت، ومنعت زوجتي من الاعتراض لئلا يقتلونا». يقول الديبلوماسي المتقاعد سالم توما إن اكثر ما جرحه وأشعره بالخذلان، لم يكن تجريده وعائلته من السيارة والنقود والذهب والهواتف النقالة والأوراق الثبوتية، «ما جرحني هو تلك الطريقة الفظة التي تحدث بها معي مسلح افغاني طويل الشعر واللحية، كريه الرائحة، قال لي بعربية سيئة إن الموصل لن يبقى بها كافر واحد بعد الآن». عند ظهيرة يوم 19 تموز، خرج من مدينة الموصل اكثر من 1200 عائلة، تركوا منازلهم وممتلكاتهم وانتُزعت منهم اموالهم وحتى وثائقهم الثبوتية، ولم يبق امامهم إلا النزوح الى مدن سهل نينوى وإقليم كردستان. يشعر القس جورج بالأسى، ليس فقط لأن الموصل صارت خالية من المسيحيين للمرة الاولى منذ 18 قرناً، بل ايضاً لأن بعض من شاركوا في نهبهم وتهجيرهم، هم مواطنوهم العرب الذين عاشوا معهم لقرون. حاجز الرعب وثّق كاتبو التحقيق شهادات عشرات من المسيحيين النازحين حول ما تعرضوا له في حاجز التفتيش: سالم زيا: استولى المسلحون على مدخرات عمري، وقام احد المسلحين بتفتيش حقائب زوجتي وابنتي الكبرى ثم وضع المصوغات في كيس كان يحمله وطلب منا تسليمه أوراقنا الثبوتية. أم مريم: خرجنا عصر الجمعة، حين وصلنا نقطة التفتيش طلبوا مني ومن بناتي الصغيرات التوجه الى الجامع القريب، وهناك قامت ثلاث منقبات بتفتيشنا بعد تجريدنا من ملابسنا، عرفت أنهم يخشين أن نكون خبأنا مصوغات ذهبية. كان التفتيش مهيناً جداً، ولكن لم أستطع الاعتراض خوفاً على بناتي وعائلتي. نادين شوكت: استولى المسلحون على نقودنا ومصوغاتنا. احد الملثمين كان يتحدث بلهجة قروية، وضع في جيبه جهاز الآي فون وخاتماً ورثته عن أمي وألقى البقية في الكيس. ثم سحب ملثم آخر هوياتنا الشخصية والجوازات. أبو رامي: أخذوا مني 16 مليون دينار عراقي (13 ألف دولار) وثلاثة موبايلات، لابتوب، سيارتي الهونداي الحديثة، الأوراق الرسمية الخاصة بالعائلة وبالسيارة، مصوغات ذهبية تتجاوز 5 آلاف دولار. نورا ميخائيل: أخذوا كل النقود والمصوغات والوثائق الثبوتية، وطالبني ملثم بتسليم أقراط ابنتي التي كانت في أذنيها، في البداية ظننته غير جاد، فاعترضت، لكن حين حاول أن ينتزعها توسلت إليه أن أفعل هذا بنفسي. صموئيل زيا: أخذوا منا السيارة والمصوغات والنقود، وحين طالبوني بإنزال والدي المقعد من كرسيه المتحرك، توسلت إليهم أن يسمحوا لنا بالاحتفاظ به، لكنهم وافقوا أخيراً على أن أوصله إلى سيارة الأجرة وأترك المقعد المتحرك وأمضي. يوحنا إفرام: تعرفت على أحدهم من بعيد، كان ميكانيكاً في منطقتنا والتحق بداعش في بداية دخولها الموصل. خفت أن يعرفني فيتقصد إيذائي وعائلتي، فضلت أن اسلم كل ما معي من نقود ومصوغات وأمشي مع عائلتي بسرعة، حين ابتعدت عن حاجز التفتيش، استعدت أنفاسي بصعوبة. تانيا فؤاد: لم أفلح بإقناعهم أن يتركوا لي مبلغاً لا يتجاوز الخمسين دولاراً، قلت لهم إننا سنحتاجه للتنقل أو لشراء قناني المياه والخبز، لكنهم انتزعوها مني. القس بولص جورج: جردوني وعائلتي من كل النقود والمصوغات والهواتف والأجهزة الإلكترونية، ثم أخذوا مفاتيح السيارة وحين تمسكت بالوثائق والجوازات، انتزعها مني مسلح آسيوي يتكلم العربية بالكاد، وطلب مني أن أغادر مدينة أجدادي، الموصل، مشياً.