الجمال حُصْنُ العالم، لولاه لأمست الأرضُ مجردَ كوكب آخر موحش. يُعرَف الجمالُ ولا يُعرَّف. تغريدة عصفور على شرفة الصباح تمسح أثرَ كوابيس ليل طويل. فنجان قهوة يفيض برائحة البُنّ، راسماً ب «القشوة» أو بما تبقى من أثر في قاع الكوب وجنباته خريطةَ نهار جديد مفعم بالعطر، عطرِ الحياة. ابتسامةُ طفل يانع البراءة تضيء أشد الظلمات حلكةً وقتامة. صوتُ مغنية يسدُّ ثقوباً في القلب ويردمُ فجوات الروح. هفهفةُ ثوب على جسد أنثوي تحرّض البصر على التيقظ، والحدس على الاحتمال. قامةٌ عالية تتماوج كسلّم موسيقي. الموسيقى قمة الجمال، أعلى جباله، نتسلقها صعوداً ونزولاً، تأخذنا الى حافة الهاوية وشفير الهلاك، ثم فجأة وبلا مقدمات تلقينا في وادي الطمأنينة. الجمال ليس فقط ما تسمعه أو تراه. يكفي أحياناً ان تُغمض لتبحر في محيطات من السحر والمتعة والدهشات.أُغمضُ عيني لأراك أكثر وضوحاً. أحياناً أبصرك بيدي، برؤوس أناملي، أتهجى جلدك كمن يقرأ كتاب «برايل». المرأة أجمل ما في الجمال، فيها الموسيقى، الضوء، الشعر، الحنان، صهيل الخيل وحدّ السيف. امرأة جميلة تُوقظُ الأحصنة النائمة بين المفاصل، تُسمعُ العالمَ هسيسَ قيامة العظام. الجمال الذي يعرف قدْر نفسه أشد خطراً من الوقود النووي. لا أحد يقوى على وقف تخصيب الأنوثة. حُضنُ امرأة ينسينا الحروب والزلازل والفيضانات، والأصح هو ينقلها من الخارج الى الداخل، يزلزلُ الوقتَ والوعي والأحشاء. النار تحرق من قرب، الجمال يحرق من بُعد (كانط). في الحرب يتضاعف الخوف، كذلك الحُبّ. نخاف على مَن نحب فنحبه أكثر. احتمال الخسارة يجعلنا أكثرَ حباً، أكثر ادراكاً لقيمة مَن قد نخسر. مَن نحبهم لن يقيموا بيننا الى الأبد، معظم الأحيان ننسى هذه الحقيقة المؤلمة. لنُحبّهم كلَّ لحظة، كلَّ برهة، كلَّ شهيق وزفير، كلَّ رفة عين، لنختلس السعادة من أشداق الحياة. مَن (وما) يأتي بسهولة يرحل بسهولة أكبر. امرأةٌ يُشعل مرورها الحرائق ويفجر البراكين، لكنها تجعل الصيف أقل قيظاً ولزوجة. عودُ ثقاب يحرق غابة بأكملها. ابتسامةُ غريبة تكفي لألف قصيدة آتية. لولا جمالك كيف لي المقدرة على تحمّل كل هذي الحروب، كل هذا القتل والبطش وسفك الدماء. أحدّق في وجهك الحاكي لأمحو عناوين الصحف ونشرات الأخبار. جمالك ممحاة الأسى. لولا جمالك كيف لي الاستيقاظ بكامل لياقة لهفتي وانتباهي. أنتصر لجمالك انتصار نبي لرسالته. عيناك أعجوبتي، قامتك عصاي لأغلب السحرة والأفاعي وأصرع التنين. مُسرعاً اليك أمشي على الماء. الجمال يسرّع الدورة الدموية، يجعل القلب أكثر نشاطاً. يُقلّل مخاطر الإصابة بالسكتة المفاجئة... أو يتسبب بها. يزدادُ الطغاةُ غلاظة وقساوة لأنهم يفقدون المقدرة على التمتع ببداهة الحياة. يخسرون متعة التفاصيل العادية وجمالات البساطة: السير على الكورنيش ساعة غروب، مشاهدة فيلم رومانسي في صالة مكتظة بصحبة امرأة فاتنة، سماع أغنية غير متوقعة في راديو سيارة قديمة الطراز، التهام سندويش على قارعة الرصيف. تأسرهم صورهم ومراياهم فينتقمون من كل ما لا يستطيعونه ولا يقدرون عليه. الديكتاتور قادرٌ على شن الحروب وتوقيع قرارات الإعدام والنفي والسجن والإبادة بجرّة قلم، لكنه لا يستطيع التجوال بمفرده تحت قمر البلاد، أو مرافقة صغيره الى المدرسة، أو القيام ب «كزدورة» بسيطة على رصيف المدينة. زهرةٌ برية حُرّة أكثر جمالاً من «حدائق بابل» في قصر السلطان. أحياناً تكفي قبلة صغيرة لترويض الوحش الكامن في الانسان. نظرة، ابتسامة... وبقية الحكاية المعروفة، التي لم ولن تنتهي مهما اشتدت الحروب والمحن وتطورت التكنولوجيا وتغيرت أحوال الناس.