من المفارقات التاريخية أن التجريب كان علّة السينما وليس ذريعتها فقط، فعلى الرغم من أن أولى الأفلام السينمائية كانت تنزع نحو التجريب، إلا أنها لم تكن مكتملة، لغياب الصوت عنها. ولهذا يمكن اعتبار سينمائي كبير مثل سيرغي أيزنشتاين، وفق كتاب «منطق السينما التجريبية» لمؤلفته الباحثة العراقية بان جبار خلف (منشورات مؤسسة السينما السورية - 2011)، ناقصَ التجريب، لغياب الصوت مثلاً عن فيلم «المدرعة بوتومكين»، بالرغم من أن التدليل على هذا النقص قد يسده بيان الدوغما، الذي يعترف بأقل قدر ممكن من الأصوات الواقعية، وقد لا يلقي بالاً إلى الحوارات، كما يفهم، باعتبار أن هذا يقع أيضاً في العلة ذاتها التي قادت إلى التجريب في حقل الرؤى السينماتوغرافية، بعكس «التجارب» الأولى، التي تبدو مربكة هنا تماماً. العلة هنا تتوسع دائرتها في أكثر من اتجاه يتعدى اللون والمونتاج والمنطق السردي، وحتى المنطق التجريبي نفسه، حين تقرر المؤلفة ألاّ تنتبه للفيلم القصير، مولية كل الاهتمام للفيلم الروائي الطويل، رغم أن الفيلم القصير يمكن اعتباره خزاناً تجريبياً كبيراً. ولكن قد تبدو بان خلف محقة إلى حد ما، اذ يمكن من ناحية ما اعتبار الفيلم القصير «متواضعاً» في علاقته الجدلية مع اللغة السينمائية والشكل الفيلمي والسرد السينمائي الذي لا يكتمل الا في حالة الفيلم الطويل. وهنا، لا يمكن اعتبار التجريب مجدياً إن لم يجرّ معه كل عناصر صناعة الفيلم كاملة، من غير نقص أو علّة مهما صغر شانها. وكما تبتعد المؤلفة بفهمها للسينما التجريبية عن السينما التجارية السائدة، فإنها تقترب بالقدر ذاته من مفهوم السينما الطليعية، باعتباره مرادفاً للتجريب، اذ لم يكن مقدراً للسينما الطليعية هنا ألاّ تستثمر في حقل «الكشف عن الرؤى»، وإن كان فهم المصطلح هنا مبتسر، لأنه قد يشمل بعض الأعمال الابداعية والتجريبية الأخرى «غير الروائية» التي يتم صنعها بمنأى من التيار السائد. ولهذا تبدو المؤلفة معنية بتحديد مفهوم التجريب، كونه يأتي أيضاً من الفنون المجاورة للسينما، لأنها فنون غائصة في الزمن، فالشعر على سبيل المثال، يستمر فيه التجريب منذ عشرات القرون، فيما فن الفيلم نفسه لا يوجد إلا منذ قرن ونيف، وهو تاريخ قصير نسبياً. وقد تتوسع العلّة هنا أيضاً أكثر فأكثر، لتشمل مصطلح التجريب الطليعي، فهو «مصطلح عسكري فرنسي امتد ليشمل الحركة السياسية والفنية». الفنانون، وفق الشاعر الأميركي إزرا باوند، هم «قرون استشعار الجنس البشري»، لكن هذا قد يبدو ضعيفاً في منطق السينما نفسها، لأنها تقوم على صناعة متكاملة عادة ما لا يتحكم بها المؤلف وحده، حتى لو بدا - وفق المؤلفة – أن من يقدم على التجريب إنما يقف أمام جميع المشتغلين في الحقل الفني برؤاه وكشوفاته. ولا بد لهذا الطليعي من أن يكون لديه ما يحفزه على التجريب. ولعل أهم هذه المحفزات هو أنه يضيق ذرعاً بالسائد الذي يطبع الحقل الفني المقصود. قد يبدو باوند محقاً في حالة الشعراء مثلاً، لكن حالة السينمائيين قد تبدو حتى وقت قريب صعبة ومغلولة، بحكم منطق انتاج الفيلم السينمائي نفسه، لأن كل محاولات التجريب في السينما كانت موجّهة بالأساس إلى الشكل الفيلمي، الذي ينطلق أساساً من أفكار مسبقة في ذهن الفنان السينمائي. وقد تبدو الفكرة لامعقولة كي يستتبعها شكل فيلمي لامعقول لأول وهلة، وإلا فما معنى –كما تذهب المؤلفة– أن يمثل الممثل موتَه أمام الكاميرا بتصنع واضح، كما هو في فيلم «على آخر نفس» للمخرج جان لوك–غودار؟ المثال نفسه قد يبدو في نهاية المطاف «تقليعة ضقنا ذرعاً بها أيضاً»، لأن ما فعله غودار هنا يبدو موجّهاً نحو لغة سينمائية فقدت الحياة، وعليه اعادة الحياة إلى هذه اللغة الجامدة التي فقدت قدرتها على التعبير، لأنها توجهت باستمرار نحو الخارج المحسوس. تقليعة أم علة جديدة تضاف إلى منطق التجريب؟ ترى المؤلفة خلف أن الأفكار يُترك لها أن تقرر الشكل، إلى جانب تقرير المحتوى، ولهذا يبدو الشكل الفيلمي القائم على التجريب محتاجاً موضوعاً يتناسب معه، مثلما يحتاج سرداً ينهض بهما معاً، وإلا أصبح الفيلم مفتعلاً، فموضوعة مثل «الملك لير» عندما تتحول إلى فيلم سينمائي تجريبي، فإنها تستحق شكلاً وسرداً فيلميين يتناسبان مع هذه الموضوعة بالفعل. وبالتأكيد، سيظل التجريب في السينما غيرَه في سائر الفنون، فهو تجريب لا يبقى في إطار عمل فردي كما أسلفنا. وكما تنحو المؤلفة عموماً، فالتجريب هنا يؤسس في فضاء التجريب اتجاهاً، ولا يبقى مؤسساً لنفسه فقط، والسبب واضح، فالسينما فن مكلف اقتصادياً، وهذا يعني أنه لا بد من استرداد كلفة الإنتاج على الأقل حتى يضمن استمراره، هذا إذا عرفنا، وفق منطق السينما التجريبية، أن الفيلم التجريبي هو ذلك الفيلم الذي يبتكر شكلاً سينمائياً خالصاً بعيداً من أساليب الفنون المجاورة وأشكالها، مؤكداً على الصفة السينمائية فيه عبر الشيفرة والرسالة والنظام والنص والسياق والاستبدال، مما يصنع الدلالة المعرفية لدى المتلقي. وهذا قد يبدو للوهلة الأولى خارج منظومة الإنتاج السينمائي المتعارف عليها والسائدة، ولهذا يبدو سهلاً هنا البحث –كما ذهبت المؤلفة- وتخصيص فصول لسينمائيين طليعيين مثل غودار وبرغمان وبازوليني، باعتبارهم «الحداثيين الجدد»، ناهيك عن دراسات متعمقة حول آل روب غرييه ولارس فون تراير وآخرين.