وجّه مجلس المطارنة الموارنة في لبنان نداء اعتبره بمثابة «جرس انذار ودعوة ملحّة الى معالجة الامور قبل فوات الأوان». وعقد المطارنة اجتماعهم الشهري في الديمان، برئاسة البطريرك بشارة الراعي ومشاركة الكاردينال نصرالله صفير، وحيّوا الجيش اللبناني في عيده، مثمنين «كل تضحياته للذود عن الوطن والمواطنين»، داعين الجميع إلى «الالتفاف حوله ليبقى الحصن المنيع في وجه المخاطر التي تهدد لبنان». وأصدر المجلس في ختام الاجتماع «نداء 1 آب» (اغسطس) وأشار فيه الى ان «بالإضافة إلى الملفات الشائكة التي يرزح تحتها الوضع اللبناني، وتداعيات الأزمة السورية عليه، برز اخيراً وبتطور لافت وفي شكل مأسوي أحياناً، الموضوع الاقتصادي – الاجتماعي الذي يأخذ مناحي خطرة بجعله فريسة التجاذبات السياسية المتصلة بأكثر من خلفية. وربما كان الأخطر في هذا الموضوع أنه ينحو في عمقه باتجاه طائفي، مع الخروج على الأعراف والقوانين واللجوء الى منطق أشبه بالعصيان المدني». ولفت الى ان «أمام هذا المشهد تبدو حال من العجز على مستوى القرار السياسي والرؤية الاقتصادية، سيكون مآلها دخول لبنان مرحلة ضبابية تعرّض مصير الدولة لخطر الإفلاس إذا ظل التعامل معها بروح اللامسؤولية أو بمقاربات جزئية، ولم يعد من مجال للهروب من البحث عن مخارج جذرية للأزمة الاقتصادية مبنية على مبادئ أخلاقية وقانونية، وعلى مشاريع طويلة الأمد توفر للدولة والمجتمع حالاً من الاستقرار الاقتصادي التدريجي». واعتبر المجلس انه «إزاء هذا الواقع الخطر، لا تستطيع الكنيسة ولا يمكنها أن تنأى بنفسها في مسألة يقع ضحيتها بالدرجة الأولى المواطن اللبناني». ووجه النداء أولاً الى الرأي العام اللبناني، «لكي يعي دوره في ممارسة حقوقه الديموقراطية انتخاباً ومحاسبة»، وثانياً إلى «جميع المسؤولين كي يتحملوا مسؤولياتهم الأخلاقية والوطنية خدمةً للناس وحفاظاً على الوطن. وإلا أصبحت دولة لبنان مفلسة على المستوى الأخلاقي والمادي والقانوني، فيصح فيها القول: «انزع القانون وإذّاك ما الذي يميز الدولة من عصابة ضخمة لقطاع طرق؟». واقع الاقتصاد اللبناني واعتبر المجلس ان الوضع الاقتصادي – الاجتماعي في لبنان «يشهد ظروفاً بالغة الصعوبة تنذر بالمزيد من الخطورة في ظل غياب الرؤى المتكاملة للحل»، لافتاً الى ان «موضوع الكهرباء أصبح يمثل خطورةً على الاقتصاد الوطني، ولا تنجو من تلك المضاعفات القطاعات الخدماتية نفسها التي لا بد لها من استعمال الطاقة، كما تتأثر بالظروف السياسية والأمنية المتقلبة بالاضافة الى الاضطرابات والحروب التي تلف المنطقة». وأكد المجلس ان «المشكلة الأساسية الثانية هي تراكم الدين العام، اذ يواجه لبنان واقع «الاقتصاد النازف» الذي تحول الى أزمة وجودية مستمرة، في ظل عدم معالجة واقع كهرباء لبنان والدين العام»، محذراً من انه «إذا لم نتصد بقوة لهذا الوضع السيئ، فما هو متوقع في السنوات القليلة المقبلة مخيف حقاً. ففي حدود العام 2016 يتوقع بعض الخبراء أن يرتفع إجمالي الدين العام بنحو 33 في المئة، ليصل الى حدود 80 بليون دولار أميركي». وإذ اشار المجلس الى «ذوبان الطبقة الوسطى، وتزايد نسبة المواطنين الذين يعيشون تحت خط الفقر، وانحسار عدد فرص العمل»، لفت الى ان «شبح الانهيار الكبير وخطر إفلاس الدولة تبدو مؤشراته واضحة من تعثر الدولة في دفع المستحقات للمؤسسات الخاصة والعامة، والخوف من عدم تمكنها من تأمين الرواتب والأجور». ورأى أن ما حل بلبنان من «حروب واحتلالات وتدمير وتهجير منذ العام 1975 ضرب الاقتصاد الوطني في الصميم»، معتبراً ان «هناك أسباباً أخرى تمنع هذا الاقتصاد من استعادة حيويته أهمها: اعتماد سياسات اقتصادية ناقصة، اذ ركزت على الاقتصاد الريعي، وأهملت القطاعات الإنتاجية، واستسهلت الاستدانة تمويلاً لعجز الدولة المتفاقم، المتأتي من تضخيم متفلت لمصاريف الدولة غير المنتجة في معظمها. كما أنها حصرت القوة الاقتصادية في العاصمة من دون العمل جدياً على إعادة بناء المناطق المهجرة، وتنمية كل المناطق، ما أدى الى التراجع الخطير في القدرة التنافسية للقطاعات المنتجة، ولم يحصن القطاعات الأخرى في وجه التقلبات السياسية والأمنية المتكررة». وتحدث المجلس عن «تفاقم الفساد في جسم الدولة والإدارات العامة واستباحة المال العام، والهدر في الإنفاق على المشاريع التي تكلف الدولة أضعاف كلفتها الحقيقية، واستسهال الصفقات مع غياب أية مراقبة او محاسبة واعتبار الدولة «بقرة حلوبة» ومرتعاً للمحاسيب، ما أدى الى التضخم الإداري بأعداد لا كفاءة لديها، وأخذت تبرز أخيراً محاولات وضع اليد على بعض المرافق العامة، ومنافستها من قبل متنفذين، ما ألحق ضرراً أكيداً بواردات الدولة». ورأى المجلس أن «الانقسامات السياسية العميقة، وعدم وجود رؤية موحدة واضحة، وطغيان المصالح الخاصة أو الفئوية، وانتهاج سياسات الكيدية والتعطيل المتبادل والتشفي، أدت الى شلل آلية اتخاذ القرار المناسب وفقدان القرار في الدولة». اقتراح حلول واعتبر مجلس المطارنة ان خطورة الوضع الاقتصادي اللبناني المعقد «تحملنا على اقتراح بعض الحلول الاستراتيجية وهي ان تركز الدولة على دورها الناظم، اذ ليس للدولة في النظام الاقتصادي الحر أن تحتكر السلطة والقرار وتدير مباشرة كل الاقتصاد، كما في الدول والأنظمة التوتاليتارية، لكن النشاط الاقتصادي لا يمكن أن يندرج في فراغ مؤسسي أو قانوني أو سياسي، بل يفترض أن تؤمن ضمانات للحريات الفردية، وللملكية الخاصة»، مؤكداً ان «للدولة دوراً ناظماً في مجال الاقتصاد، من خلال سن القوانين العادلة فتحد من الاحتكار وجشع البعض، وتؤمن العدالة الاجتماعية لجميع المواطنين». وأكد إطلاق الشراكة بين القطاعين العام والخاص والمقيم والمغترب، وأوصى بإطلاق قرار إعادة إحياء العمل في المجلس الاقتصادي - الاجتماعي، والإسراع في تعيين الهيئات الناظمة للقطاعات المختلفة. ودعا الى «اعتماد الخطة الخمسية لخفض نسبة الدين العام عبر إصلاح جذري ضمن خطة خمسية او أكثر، تشمل وضع موازنات تستشرف المعطيات للأعوام المقبلة، واستحداث «صندوق خاص» لمعالجة الدَين العام، وإنشاء «صندوق للطاقة»، وإعادة هيكلة قطاع الكهرباء والإسراع في تشكيل الهيئة الناظمة له ولسواه من القطاعات، والتعاقد مع شركات متخصصة باستخراج النفط بشفافية مطلقة ومن دون تسييس او فساد، قبل أن توضع الأيدي على جزء كبير من حقول النفط والغاز الطبيعي في مياهنا الإقليمية، وتتسبب لنا بحروب جديدة نحن بغنى عنها». وطالب المصارف اللبنانية بترشيد عملية إدانتها للدولة. وشدد على ضرورة «الإسراع في تطبيق اللامركزية الإدارية والإنمائية الموسعة وبسط الدولة قراراتها على المناطق والمواطنين كافة، وإخضاع الجميع لمتطلباتها ومكافحة التهرب ومختلف انواع التفلت لكي لا يكون هناك صيف وشتاء تحت سقف». وأطلق المطارنة «صرخة تحذير كبرى من خطر تزامن الفشل مع المتغيرات السياسية الكبرى الحاصلة في المنطقة والتي قد تشكل الشرارة التي في اندلاعها قد يبدأ انحلال لبنان»، ورأوا ان الانهيار الاقتصادي - الاجتماعي إن حصل، سيشكل عامل ضغط إضافياً على النسيج الوطني الذي تجمعه تفاهمات ليست موضع نزاع او انقسام. فعندما تعجز الدولة عن الالتزام بموجباتها، يرهن الوطن ومصالحه العليا، ويسهل فرض تغييرات جوهرية على غرار فرض أمر واقع بالتوطين، أو الانحراف عن جوهر اتفاق الطائف القاضي بالمناصفة، أو القبول بتبدلات أساسية في الخيارات الاستراتيجية على صعيد السياسة الخارجية». وأملوا بأن يجد اللبنانيون في هذه الأخطار فرصة حقيقية لإطلاق نهضة اقتصادية واجتماعية. ودعوا الى «تجديد الميثاق بين شركاء الوطن والعمل على تحييد لبنان عن صراعات المحاور الإقليمية والدولية».