أجّلت الكتابة عن حلمى سالم طويلاً، فهل كان هذا لأن شعره غامض ومحير؟ هل لأنه كثيف ومليء بالأصوات؟ هل لأنه يمتلئ بالحيل والألاعيب؟ هل لأنه سؤال مفتوح على التجريب والمغامرة؟ نعم، هو كذلك وأكثر من ذلك أيضاً. وإذاً، فمن أين تأتى الفتنة... من أين يفيض الشعر؟ سأفكر بصوت عال وأقول إن قصيدة حلمي ماكرة، ذكية، وإنها تتعمد التمويه وتتفنن في استدراج القارئ إلى مواعيد لا يجد فيها ما توقعه، أو من واعده، فيجأر «فلا تعدى مواعد كاذبات تمر بها رياح الصيف دوني». لكن هذه الجأرة بذاتها، هي ما ترهف حواسه فيرى الشكل في الفوضى ويستطيع على الأقل أن يفرز بعض «الدر من القار في هذا الغلس» إذاً، فما يبدو صنيعة الفوضى واللعب الحر يمكن قنصه بشبكة النظام. وهذه القصيدة تبدو، في المطاردة، كأنثى ستسقط لا محالة، ولكنها تفعل ما في وسعها لتأجيل ذلك السقوط، وما في وسعها كثير في الحقيقة. أحياناً أتخيل قارئاً، مثلي، يقف في أبهاء هذه القصيدة، كما لو كان في معرض للفن التشكيلي يتأمل هذه وتلك من اللوحات والتماثيل والتكوينات، يعجب أو لا يعجب، ولكنه ما إن يقترب من الباب منصرفاً ومعذباً بحيرته حتى يشعر كأن مساً أصاب كل شيء فراحت الصور والأشخاص والكائنات والأصوات تخرج من قبضة القماش والحجر والآوان والأسطوانات، تتحرك هنا وهناك، وتكون في ما بينها علائق لم تكن، وحكايات لا تنفد. هى إذاً، قصيدة تؤجل إعطاء نفسها، وتحتاج لكي تفعل، إلى قناص دؤوب، أو مريد دنف. هي قصيدة الفسيفساء بامتياز، التشظى بنيتها الأساس، والتمويه والاستدراج حيلتها الرئيسة. قصيدة ذكية، واعية بنفسها، وكما تحدق في العالم تحدق في نفسها، وكما يكون الوجود موضوع القصيدة تكون هي أيضاً موضوع نفسها، قصيدة تمضي على السلك، من دون تعثرات فادحة، كلاعب سيرك محترف، بل وتبدو التعثرات نفسها وكأنها من باب الإثارة، أو السخرية والونس بشهقة الجمهور. حلمي سالم شاعر قادر على قصيدة التفعيلة وقادر على قصيدة النثر، بل قادر على كتابة مقطوعات بالغة الجمال والعذوبة من الشعر الكلاسيكي، وهو - عبر دواوينه كافة - يمزج بين هذه الأشكال بمقدار هائل من السلاسة والتوفيق.