مُتشظيّاً، هي الكلمة التي تجمع حياةََ هذا الشاعر ونصه. نعم هو التشظي التبعثرُ الملتهبُ والأصداءُ المضيئة في لعبة تختلطُ فيها الصورةُ الشعرية بالصورة الكليّة، فعقيل علي الشاعر يكتبُ كما تبكي «موجةٌ في مرآة»، «تتأملُ دموعها»، «ثم تسأل عن بحرٍ أو عن شمس». يواصل «تمرينَه» الشعري – الكينوني هذا عبر اللغة في هدوء ووضوح غريبين على رغم أنه يتصدّى لحالة تماهٍ شعرية محضة، يترك وجودَه الكلي يذوب فيها: «أُعيد النغمَ إلى الاسطوانة، العويلَ الأبديَّ للقبّرات أعيدُ الشمسَ إلى الاسطوانة» قبل أن يعود هو إلى الموجة، إلى الأمواج التي تناديه. وعقيل علي «جسدٌ ينطقُ بأطرافه، يغني دمَ هذا الفم الشائع». في أداء شعري كهذا يضعك الشاعر أمام صورة حقيقية له لا تعكسها المرآة لأنه بمثل هذه الصور يكسر زجاج كل مرآة ويخرج عن ارتدادات أو ذبذبات كل انعكاس صوري أو رؤيوي لحالة ما، مهما تكن، فهو يبدأ عبر اللغة بمحو اللغة، لأنه «ينطق بأطرافه» ثم يواصل اغترابه وتحديه لهذا الجسد برسم قطيعة غريبة وهي التي يُحدِثُها مع الفم، فمهِ، فهو منفصلٌ عنه ويقومُ بمهمة أوكلَها لهُ فمَه وهي «الغناء بدمه». أي الشعر ذاتُه يعرّفهُ هو في هذه العبارات المقتطعة كأعضاءٍ من جسد بأنه «غناءُ دم الفم»، فم الشاعر لا غير إذاً، ولكن أين الشاعر، هل هو المغني أم هو الفم الدامي؟ تلك معادلة شعرية في ذروة التعقيد والاشتباك يدخلها عقيل علي ويُدخلُنا فيها ويتركنا. يريدنا أن نتحاور مع أطرافه لا معه ولكن عبر اللغة ولا شيء غير اللغة! أين عقيل علي إذن؟ أين الشعر؟ وأين المتلقي؟ هذا الثالوث هو أطراف اللعبة التي يضعها عقيل علي في أركان متساوية، يقفزُ عليها وحولها في أرجوحة حيث: «يطيل الترقب في وداع حضوره/ ذائباً في ضيق اللحظة،/ يحدّق بشحوب البهجة وأرضهُ قد تقهقرت/ يخضع ما تبقى من الصحو/ ويتوالد من عشبات الشطوط...»./ لعبة يعرف جيداً أن:/ «لا مفرّ له/ لا مفر» منها. ملامح الكيان المهشّم لدى عقيل علي هي العلامات الفارقة لنصه. لعله لم يرد ذلك ولم يفكر بذلك ولا تعنيه هذه العلاقة بقدر ما هي مرآة جحيميّةٌ لحياته ولكنها كذلك لأن المتأمل لنص عقيل وحياته لا يستطيع حتى وإن أراد ذلك وسعى إليه بحذاقة، أقول لا يستطيع فك هذا الاشتباك الكينونيّ بين عقيل ونصه بما ينطوي ذلك على جماليّات شعرية هائلة من ناحية ولكن أيضاً على ارتباك وتبعثر وغياب لهندسة النص لأن بناء النص وهندسته وتركيبته ونموه لغةٌ نقدية بنيويّة في الأداء الشعري لا علاقة لها بنص عقيل علي والذي هو الكيان اللغوي الصوري لوجوده كما هو، أي متشظيّاً مبعثراً. أكثر من ذلك فإن المتابع لحياة عقيل علي ولعنتِها وعذاباتها وتشظياتها وانهداماتها يدرك فوراً أنها لا تصلح أبداً أن تكون مثل الغرفة الخلفيّة لشاعريّة مهندسة مركّبة ومتنامية كما يحدث للعديد من النصوص الشعرية الحديثة والمهمة في الشعرية العربية المعاصرة وبالأخص القصيدة الحديثة. وأعتذر عن تسميتها «قصيدة النثر» لأنني أخذت عهداً على نفسي عدم الدخول في صفات ونعوت لا معنى لها أمام النص كأساس وكمعطى أول وأخير. أقول ذلك لأن عقيل علي ليس شاعرَ قصيدة وأقصدُ بالقصيدة هي الوحدة الموضوعيّة للنص الشعري، ولكي نفهم أكثر هذه الحالة يكفي إلغاء عناوين الديوان وقراءته ككل – وقد جرّبت ذلك – فلم يؤثر ذلك إطلاقاً على العلاقة بين نص وآخر ولا على شاعرية الديوان ولم ترتبك أو تتعارض أو حتى تقل أهميّة القصائد... لذلك فأنا أعتقد أن توزيع شعر عقيل علي على قصائد هو تشكيل سطحي يحاول مجاراة واقع نقدي مألوف باعتبار أن القصيدة هي الوحدة الموضوعية للديوان ويجب أن يكون لها عنوان وبداية ونهاية ونمو داخلي وما إلى ذلك. لا تصلح كل هذه الصفات على شعر عقيل علي فالعناوين، إضافة إلى كونها قشريّة خارجية فإنها أحياناً لا تدل على الكثير ويمكن استبدالها. كما يمكن حتى قراءة مقاطع القصائد أو الصفحات مع القفز بين مقطع ومقطع وبين صفحة وأخرى ولن تُحدث مثل هذه القراءة أية ارتباك أو تناقض يُذكر. إذاً كيف نفهم هذه «القصائد»؟ في الواقع يمكن اعتبارها مقاطع زمنية كتبت في ساعات وأيام وسنوات متباعدة هذا فقط ما يفصلها عن بعض، هذا التقطيع الزمني الحتميّ بحكم مواكبة ومعايشة عقيل علي لنصه هو التوزيع والتقطيع داخل كتلة النص الواحدة لديه ولهذا لا يمكن اعتبارها قصائد منفصلة محكمة البناء والتوزيع والفوارق في ما بينها. شعر عقيل علي نص واحد مكتوب بفوارق زمنيّة منتشرة طيلة حياته وهو نص شعري واحد وليس ملحمة ولا قصيدة طويلة، إنه مادّة شعريّة مثل حمم بركانية تتدفق بين الحين والآخر وتنتشر حول المكان نفسه ولهذا فإن أفضل أشكال الفصل بينها هو الحد الزماني... ليس في ما أقول انتقاصٌ ولا امتداح لنصه. إنه تشخيص الحالة الشعرية التي هو عليها وهي الأقرب إلى ملامح جحيمه الشخصي. ولهذا أصرّ على أنه من الأفضل قراءة شعر عقيل علي بعيداً عن التقطيع القصيدي وعناوينه حتى وإن كانت كلُّها من وضعه هو، لأنه ربما كان بذلك يحاول محاكاة وضع نقدي شعري ولا يصدر عن تشخيص عميق لطبيعة شعره ولا غريب في أن يجهل عقيل علي القيمة والخصوصية النقدية لشعره... ما معنى ذلك؟ إن أعتقد أن عقيل علي قصيدة واحدة... وأقول هو قصيدة واحدة وليس شعره، لأنه هو شعره وشعره هو ولأنه – شعرياً على الأقل – متماهٍ مع أعمق ذرة في كيانه الجحيمي الذي يشكل المصهر الدائم لنصه فلا يعنيه حتى التوزيع المقطعي والعنوانيّ والبداية والنهاية في ما يكتب. إنها أنفاسه المتقطعة، صرخاتُه المدوية والمكتومة، دموعُه وصمته، أشجارُه ومفازاتُه، غابتُه وصحراؤُه، كلُّها مفرداتٌ، أيامٌ، آلامٌ، جنوحٌ، جموحٌ، انكسار وعلو كُلُّها في مصهر لغوي واحد مبعثر ملتهب تتناثر في داخله فُصوصٌ لنصوص مذهلة وغير متكافئة ولكنها جديدة بكل معنى الكلمة قائمة على وحدة النهر لا السطر وعلى توازن الوجود والعدم لا المعنى واللامعنى متصلة بينبوع متخفٍ في الكائن لا في المادة الثقافية إنه النصُّ الملوّنُ والملوّثُ والمتشظي في الكائن كما يمكن ببساطة وضع هذه الصفات وعكسها كما يحلو لعقيل في «المرآة» لتقرأ على أنه الكائنُ الملوّنُ والملوّثُ والمتشظي في النص.