على غير العادة، وأنا اقضي إجازتي الصيفية في لبنان الجميل، ببحره الصافي وجوّه النقي وهوائه العذب وجباله الشامخة، إذا بي أراه قد خلا -أو كاد- من سياحه المعتادين، فلا الأسواق حافلة بالمتسوقين، ولا المقاهي صاخبة بروّادها كعادتها. ورحت أستعرض الأسباب، وكيف اختلط الخطأ بالصواب فتضخمت الأخطار الإعلامية حول أوضاعه الأمنية، ما كان له بالغ الأثر على حركة إشغال الفنادق وأسعار الشقق المفروشة، بل حتى على أسعار بعض العقارات المطروحة للبيع. في الجانب المقابل، تواجه هذه الصورةَ الضبابية أخرى واضحةٌ في مكان آخر نحو الشمال الشرقي، نحو تركيا تحديداً، هذا البلد الذي نجح أخيراً في الترويج لسياحته، واستعراض ربوعها، وإبراز ملامح من تاريخها وحضارتها وجمال موقعها الجغرافي، ولفت انظار العالم كله إلى جمال طبيعته، وتناسق مبانيه، وبراعة هندسة مساجده وكنائسه، بل تمكنت تركيا من ان تدخل كل بيت، من خلال مسلسلاتها المتنوعة، التي تناولت تارة تاريخ تركيا الحافل، وتارة أخرى قصصاً اجتماعية من وحي العادات والتقاليد السائدة، والتي كانت بمثابة دعوة لكل متابع إلى زيارة تركيا والاطلاع عن كثب على معالمها، ولقاء الفنانين والمبدعين فيها. من هنا، كان للإعلام دور كبير في إحياء مدن تركية كاملة، على غرار مدينة كبنجة، ومدينة بورصة، التي سكنها عدد كبير من الخليجيين، وفي تشجيع الكثير من المستثمرين على إنشاء المنتجعات السياحية، التي غزت أنطاليا وبودرم. وفي هذا المضمار، نرى مثالاً آخر لنجاح الإعلام في تنشيط السياحة والعقار، وكيف كان له الدور الأبرز في وضع دبي على خارطة العالم، وصنع سوق سياحي وآخر عقاري من بيئة ذات موارد طبيعية شحيحة ومناخ غير ملائم، وتحويلها وجهةً غنية تحولت نحوها بوصلة العالم السياحية، بعد أن استطاعت أن تجعل من بنيتها التحتية وأبراجها الشاهقة وفنادقها الفخمة، وجهةً خصبة للسياح، لتصبح السياحة وبقية القطاعات سبباً من أسباب نمو الناتج المحلي الإجمالي، الذي من المتوقع أن يسجل نمواً تزيد نسبته على 4 في المئة في الربع الأول من العام الحالي، في حين أنه حقق نمواً بأكثر من 3 في المئة عام 2011، ونحو 2.5 في 2010... ولا شك في أنه سيسجل المزيد والمزيد، في خضم المبادرات والسباقات التي نجحت الإمارة بتثبيت أقدامها فيه. وبالقرب من دبي، وتحديداً في الأردن هذه المرة، لا تقل صورة السياحة المشرقة عنها في تركيا ودبي، مع اختلاف بسيط في طبيعة الترويج ونوع المنتَج السياحي، فالمؤشرات على الأرض تدعم قوة القطاع، إذ إن إيرادات السياحة سنوياً لا تقل عن 3 بلايين دولار، كما انها سجلت منذ نحو 3 سنوات استقطاب نحو 3.5 مليون سائح من مختلف انحاء العالم. وإضافة الى ذلك، يعتبر الأردن أحد أبرز مراكز السياحة العلاجية في المنطقة، نظراً الى المناطق التي يقصدها السياح للعلاج، لاسيما البحر الميت وحمامات عفرا. كما استطاع الأردن تنشيط سياحة المؤتمرات، التي كان لها نصيب وافر من إجمالي مساهمة السياحة في الناتج العام لهذا القطاع. ولم يأت هذا من فراغ، نظراً الى ما يتمتع به الأردن من استقرار شامل، كما ان موقعه الجغرافي وجمال بيئته، إضافة الى بناه التحتية المتنوعة، كلها أمور شجعت على نمو السياحة في الأردن وتعزيز مكانته على الخارطة السياحية العالمية. ولا شك في أن هناك تجارب اخرى، سواء في المنطقة أو العالم، ونحن لسنا بصدد تعدادها كلها، فهي معروفة ومألوفة، إنما أردنا الإشارة إلى حال لم تكن في الحسبان ذات يوم، فالمنطق يقضي بأن يصير المتميز أكثرَ تميزاً، لا ان يتقهقر، بسبب هذا العامل او ذاك، تاركاً مركزه للاعبين جدد ثبّتوا أقدامهم في الساحة واستفادوا من عوامل عدة. يمكن القول بكل صراحة إن للإعلام دوراً أساسياً في هذه العوامل، إذ أدى دوره في خلخلة مراكز الاهتمام، وتحويل الأنظار، وقلب معادلة العقار والسياحة بكل جدارة نحو وجهات اخرى. نحتاج بالفعل إلى أن يكون للإعلام دور يتحرك على مدار الساعة، يعيد للأمور نصابها، ويمتلك القدرة والحِرَفِيّة العالية على ان يدخل القلوب بعد ان يملأ الحواس، لا أن يدغدغ حاسة واحدة، فيساهم في التشجيع على تنشق هواء لبنان، والعيش بين سهوله، والتفاعل مع أمسيات الطرب فيه، والتجول في ربوعه التي قلّ مثيلها، فيشم الزائر من بعيد رائحة القهوة المنبعثة عبر فضاء الصورة المحترفة، والمشهد المتكامل الذي لا يمكن إلاّ أن ينتهي بجذبه وتحويله مستثمراً وسائحاً... عاجلاً أو آجلاً. * نائب الرئيس التنفيذي لتطوير العمليات والتسويق في شركة «المزايا القابضة»