تصادف هذه الأيام الذكرى الثانية لوفاة الأديب والدبلوماسي والوزير (الإنسان) الدكتورغازي القصيبي - رحمه الله - ولأن شخصية في مكانته وقيمته، فلا أعتقد أن أي إنسان تعرّف عليه رحمه الله عن قرب سيكون من السهولة عليه أن تمر هذه الذكرى دون أن يسطّر بعض الكلمات ولو كانت في صيغة ذكريات تخليداً لذكراه، أساساً بأقواله وأعماله من أجل الوطن الغالي.. وعلى رغم أني لم أتشرف بمعرفته عن قرب إلاّ أثناء فترة عملي في سفارة خادم الحرمين الشريفين في لندن حين كان رحمه الله سفيراً فيها، وان لم تكن كافية تلك السنوات الأربع لأنهل المزيد من نهر معارف غازي القصيبي، إلا أنها بلا شك كانت كفيلة بأن أتعرف أكثر على تلك الشخصية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس.. ولهذا ستقتصر هذه المقالة على تلك الفترة القصيرة التي كانت مليئة بالأحداث والمواقف الكثيرة والتي سأختصرها قدر الإمكان لأتمكن من التطرق لأغلبها على أقل تقدير.. فلن أتمكن في هذه العجالة من سرد جميع الذكريات الجميلة والمؤثرة جدا التي عايشتها في حياته رحمه الله. في البداية أعتبر نفسي من المحظوظين جداً لتشرفي بالعمل تحت رئاسة هذه الشخصية النادرة التكرار.. وأعتبر نفسي أكثر زملائي حظاً وسعادة بأني كنت واحداً من المقربين جداً في مجال العمل لدائرة مكتبه وارتباطي المباشر به رحمه الله، مما سهّل عليّ الكثير في أداء عملي والاستفادة بكل ما أتيحت لي الوسائل الممكنة من هذه الجامعة الشاملة.. وأعتبر نفسي تتلمذت من جديد على يده رحمه الله، وهو شرف لي ومنهاج في حياتي العملية والعامة مازلت وسأظل أسير عليه بحول الله وقوته. دعوني أحدثكم عن غازي القصيبي السفير.. لكم أن تتخيلوا أن هذه الشخصية التي ألّفت عشرات الكتب والروايات والدواوين.. الذي ترسم ريشته كل يوم صورة شعرية رائعة، وتسطّر المقال تلو الآخر.. ومن يتداخل مع هذا الأديب ويعقب على ذالك الكاتب ويشاغل الإعلاميين ويشاغلونه.. وهو الذي يحتفظ بذلك الكم الهائل من المعلومات الثقافية والأدبية والسياسية، تخيلوا أنه لا يروق له أن يكون على مكتبه ورقة واحدة.. لم أدخل عليه يوماً في مكتبه ووجدت معاملة على جانب الطاولة أو مذكرة ما زال قلمه يراجع سطورها، أو كمّ من الأوراق المتناثرة هنا وهناك.. لم يحدث هذا قطّ.. ولا بد أن كثيريين غيري لا حظوا ذلك.. إذاً نحن أمام شخصية مرتبة ومنظمة بل هو أسلوب "السهل الممتنع" في العمل الخالي من التعقيد والبيروقراطية. من النادر جداً أن يتأخر عن مواعيد حضوره للسفارة.. لا يهتم أبداً بصغائر الأمور، يفوض نائبه ومساعديه بالقيام بالكثير من المهمات والأعمال داخل السفارة وخارجها.. يستشير كثيراً مساعديه في أمور تتعلق بأعمال السفارة، وكان رحمه الله يأخذ برأيهم إذا اتفق أكثر من رأي على موضوع معين.. يفضل أن يجتمع بموظفي السفارة لمناقشة موضوع معين والتعرف على آرائهم.. يهتم كثيراً بالاجتماع الأسبوعي المصغر لبعض رؤساء الأقسام في السفارة، الذي يناقش أهم المواضيع.. وكذلك هناك اجتماع دوري بمدراء المكاتب السعودية في لندن. يغلب عليه في تعامله الجانب الإنساني قبل الوظيفي.. يتعامل مع جميع الموظفين صغيرهم قبل كبيرهم، المراسل قبل الدبلوماسي بكل احترام وحسن تعامل.. يفاجئهم بالهدايا المعبرة والثمينة مع أرق العبارات مشاركة منه في مناسباتهم الأسرية.. يحرص كثيراً على التواصل مع المواطنين السعوديين سواء المقيمين منهم أو الزائرين لعاصمة الضباب.. تعتبر ديوانية السفارة بمثابة اجتماع أسري سعودي أسبوعي يجمعه - رحمه الله - بموظفي السفارة والمكاتب التابعة لها بعيداً عن أجواء العمل اليومي.. وكذلك مع المواطنين المقيمين في لندن، الذين يحرصون على الحضور بشكل مستمر في هذه الديوانية.. يستمع الجميع في أمسية هذه الديوانية لنبع من العلم والثقافة والأدب والسياسية.. كما يحضر فيها العديد من الأسماء اللامعة في المجالين الأدبي والإعلامي.. لم يطل استغرابي كثيراً لحضور كبار السن لهذه الديوانية بعدما تأكدت منهم شخصياً عن مدى حبهم واحترامهم وتقديرهم لشخص وإنسانية غازي القصيبي. هل أحدثكم عن: ما ذا يعني العيد في لندن للأسر السعودية المقيمة وقتها هناك؟ الأطفال هم بهجة العيد وفرحته، وسعادتهم هي سعادة من حولهم من أفراد أسرهم، "خيمة السفارة" هي الجملة التي يرددها الأطفال ليلة العيد استعداداً لفرحتهم صباح ذلك اليوم البهي الذي تهيأ فيه كل وسائل الترفيه والفرح للأطفال في تلك الخيمة الجميلة التي تعدّ خصوصاً لهم، فقط يمرحون فيها بكل براءة الطفولة وشقاوتها.. فيما هو - رحمه الله - في الصالة الداخلية للسفارة يستقبل المهنئين من أبناء الوطن الحبيب بعد تأدية صلاة العيد في مكان أعّد خصوصاً لها في السفارة.. كما يحضر للمشاركة في هذه الاحتفالية عدد لا بأس به من رموز الجاليات العربية المقيمة في لندن.. احتفالية السفارة السعودية في لندن باليوم الوطني لها طابع ونكهة خاصة يحرص الجميع على حضورها.. يحضرها الكثير من الشخصيات المهمة على جميع المستويات وفي مختلف المجالات.. أبناء الوطن في كل مدن بريطانيا يحرصون على المشاركة في هذه المناسبة الغالية. في مشاركاته المتعددة في أي احتفال أو ندوة أو مؤتمر سواء على المستوى الشخصي أو الرسمي الذي يتناول مواضيع تخص المملكة.. حضوره يعني الكثير لدى منظمي هذه الاحتفاليات، كما كان اعتذاره أو تغيبه كذلك.. يهتم كثيراً بإقامة الندوات الفكرية والإعلامية والأدبية لمثقفي وكتاب المملكة ودول الخليج، ويشرف على تنظيمها.. يوقع خطابات الدعوة بنفسه ويؤكد على المدعوين حرصه واهتمامه لتلبية دعواته وتواجدهم في مثل هذه الأمسيات. كان أكثر حرصاً على تشجيع المواهب الشابة في المجالين الأدبي والإعلامي من أبناء وبنات الوطن.. يأخذ بأيديهم ويشجعهم.. يدعم كل مبادرة وفكرة حديثة وجريئة. على المستوى الشخصي حظيت بتشجيع ودعم دائم منه في مجال العمل، وكنت أرى نفسي دائماً الأكثر حظا بقربي منه.. كان رحمه الله يتبنى كل رأي أو فكرة أطرحها عليه، كان يشجعني كثيراً على المضي قدماً في كتابة هذا الرأي أو تلك الفكرة بالطريقة التي أرغب في إيصالها.. كانت أكثر اللحظات سعادة لدي عندما يشرفني - رحمه الله - بالنقاش في مواضيع مهمة جداً، كنت أتلمس خلالها غيرته وحبه وحرصه على كل ما من شأنه رفعة بلادنا الغالية وولاءه وإخلاصه لولاة الأمر.. افتقدت كثيراً على المستوى الشخصي هذه الشخصية الإنسانية.. وعزائي كلمات غالية جداً خطتها يداه - رحمه الله - في شخصي المتواضع شرفني بها.. ستظل دائماً كما كانت أما عيني شهادة أعتز وأفتخر بها كثيراً طوال حياتي. كان يرحمه الله يحظى بمكانة خاصة لدى ولاة الأمر رعاهم الله، لمعرفتهم بمدى إخلاصه وتفانيه في كل ما يوكل إليه من مهمات، وصدقه وإخلاصه في كل ما يبديه من آراء منبعها حرصه على مصلحة هذا الوطن الغالي.. لقد افتقد وطننا الحبيب شخصية في فكر وعلم غازي القصيبي رحمه الله. كل ما استطيع قوله في ختام مقالي هذا أن كل ما تم كتابته عن هذا الشخصية النادرة جداً لم يوفها حقها حتى الآن.. وقد يطول الزمن بنا حتى نجد من يستطيع أن يوفيه رحمه الله حقه من الكتابة التي تتناول مجمل نشاطاته ومجالات إبداعه.. وكل رجائي من محبيه أن يتذكروه دائماً بالدعاء له ولجميع موتى المسلمين بالمغفرة والرحمة. رحمك الله أيها "الأسطورة". * كاتب سعودي. [email protected]