كانت أنوار راقدة في السرير، بعد حالة من الهياج، بعينين نائمتين، تفتحهما بإرهاق وتحدق في جدران الغرفة بذهول كأنها تحاول التذكر، فلا تستطيع. بيضاء ذات شعر ناعم ومرتبك. كان الطبيب الذي جاء مهرولاً قد تساءل في الهاتف: «هل وصل الأمر إلى رفع سكين المطبخ في وجهك؟» قلتُ: «نعم»، فقال: «عشر دقائق وأكون عندك». وبعد دقائق من وصوله، تحولتْ إلى أنوار أخرى، ربما قبل أن يغادر الغرفة أو يفك مساعده الحزام الجلدي عن قدميها، ويخرج الآخر العضاضة المطاطية من بين فكيها. البنتان اللتان كانتا تبكيان في هلع خارج الحجرة لم تأخذا من «أنوار» شيئاً على الإطلاق، كأنهما كانتا تقصدان ذلك، حتى لبنها، منذ اليوم الأول رفضتاه، ونشأتا على الحليب الاصطناعي، فيما لم تراجع أنوار نفسها، أو تحاول معهما، وفضلت أن يرتد اللبن إلى جسمها، فيعود عليه بالزيادة والسمنة، حتى لون بشرتها الأبيض الناصع استغنتا عنه، كما استغنتا عن أشياء كثيرة، كالجلوس على حجرها، أو النوم بجانبها، وفضلتا منذ الصغر أن تتوسد كل واحدة ذراعاً من ذراعيّ المفرودتين، وتقومان مفزوعتين في بكاء مؤلم لو امتدت إلى إحداهن يدها ولو لتغير الحفاضة، لتؤازرها الأخرى بالبكاء، ما يجعلها تنفتح هي الأخرى في صراخ وسباب، تنامان من بعده وهما تنتفضان. لا أذكر على وجه التحديد متى انفصلتا عن أنوار، لكنني منذ فترة مبكرة كنت أحممهما، وألبسهما هدومهما وأمشط شعرهما، حتى اعتمدتا على نفسيهما. أديت دورَي الأب والأم بتلقائية، لكنني لاحظتُ مبكراً ارتباطهما بي، وميلهما إلى أصدقائي وأهلي، حتى الأغنيات اللاتي كانتا تسمعانها كانت الأغاني نفسها التي أحبها، يخرجهما الأستاذ في الإذاعة المدرسية، فتلقيان كلمة الصباح، بصوت واحد، تتوقفان عند الوقفات نفسها، وحين تنتهيان تنظران كل واحدة في اتجاه، فيصفق لهما الطابور والمدرسون بحماسة، وكنت أؤدي الدورين بالتساوي، لكن البشرة الخمرية، ورشاقة الجسم، والشعر الجعد، هو ما جعلهما تنتميان لي أكثر، تسيران في الشارع كفتاة واحدة إلى جوار مرآة. في غيابي تنامان متحاضنتين، وفي وجودي، واحدة عن يميني والأخرى عن يساري، تناديني إحداهما، فتنطق الأخرى بالنداء في اللحظة نفسها، حتى اضطراب نبضات قلبيهما، لم أتصور أن يكون متماثلاً إلى هذه الدرجة، وظن الدكتور بنداري، طبيب العناية الفائقة أنني أبالغ، حتى انتابتهما النوبة في وجوده، ورأى رسم القلب الخاص بكل منهما، فقال: «ظلمتك». قبل ثمانية أعوام خيرني الطبيب الذي خرج منذ قليل من حجرة أنوار بين أن أطلقها، فأصير أباً وأماً لطفلتين، أو أعتبر نفسي غير متزوج، وأحتفظ بها كمجسم لأم أمامهما، وزوجة لطبيب نساء في بلدة صغيرة يفضل أهلها ألا يكون أعزب أو مطلقاً. اخترت الحل الثاني، فعاجلني: «في كلا الاختيارين لا بد أن تقوم بدور الأب والأم معاً»، وفرد كفيه مسلماً: «بلادة عاطفية، وتحجر في المشاعر، ليست موجهة إليك فقط كزوج، ولا تجاه طفلتين من المفترض أن يتوافر لهما الحد الأدنى الغريزي من مشاعر الأمومة، بل تجاه العالم الخارجي»، وتساءل: - كيف تكون طبيباً ولم تنتبه إلى ذلك؟ شعرتُ بغصة ولم أرد، فسألني عن عملها، قلتُ: مهندسة. «ناجحة؟» قلتُ: يسندون إليها أعمالاً إدارية، وبمرور الوقت لم يعد مطلوباً منها أي شيء، قال: وصديقاتها وزميلاتها؟ قلتُ: «تقلصن لدرجة الندرة». وهل تتواصل معهن؟ هززتُ رأسي بالنفي، فخبط المكتب بيده وقال في لوم: «وماذا كنت تنتظر يا دكتور؟». تبلُّد عاطفي. واحد من أعراض عدة لمرض كبير نصحني ألا أذكر اسمه حتى لا أزعج البنتين، لكنه تجلى عندها في هذا الجانب، وشدد على أن تتناول الأقراص، لا لتتحسن، بل لئلا تتفاقم، قلتُ: «أريد ألا يعرف أحد بذلك»، فقال: «الأمر يرجع إليك» واستبدل النقاط بالأقراص. أقف في ركن الغرفة الآن، تغمرني تعاسة مؤلمة، لأنني وحدي الذي كنت أدرك أن فساد علاقتي بأنوار كان مرشحاً للظهور منذ أول لحظة، لولا أمل ظل يراودني في أن تتغير، وقطرات من الدواء ظللت أضعها بحذر كل يوم في العصير أو الشراب من دون أن تدري، وأتابعها حتى تنتهي منه ولا تتركه للبنتين على سبيل الخطأ، وبلدة لم تعد قرية ولم تصبح مدينة، تنظر مسبقاً بمثالية إلى علاقة زوجية طرفاها طبيب ومهندسة. يغمرني الآن شعور مؤلم بالتعاسة، وأنا أرتب حجرة أنوار وأخليها من كل ما يثير الريبة، قبل أن أخرج إلى التوأم، فترتميان في حضني بلهفة وهما تتفقدان وجهي وجسمي، وثيابي التي مزقها الهياج وسكين المطبخ، بينما أحدق في عيونهما ولا أجرؤ على إخبارهما بأن كل شيء كان مهيئاً، ربما قبل عشر سنوات - لأن تسير الأمور في هذا الاتجاه، فالعلاقة بأنوار كانت تحمل هذه البذور من الداخل، منذ بنيتُ هذا البيت ولم تشارك في رسمه أو تنفيذه، فيما كنت أعتبره كسلاً أو تهرباً من المسؤولية على أكثر تقدير، حتى خطاب القوى العاملة ساهم في ألا تنكشف الأمور في وقت مبكر، حين جاءها التوظيف في مجلس المدينة، وحملت في سالي وسوسن التوأم، ثم إجازة عامين لرعايتهما، بعدها أسندوا إليها أعمالاً إدارية وكتابية، حتى هذه لم تفلح فيها، فلم يسندوا إليها شيئاً، فقط الحضور والجلوس على مكتب حتى الانصراف، بينما كنتُ أحاول تعويض الغياب الفادح لغريزة الأمومة حتى لا تفسد علاقتها بالتوأم، باحتضانهما والمبالغة في تدليلهما، والصفح عن تجاوزات حتى لا أضيف إلى مشاكل مشكلة أخرى، بينما أنوار راقدة في السرير، أو تشاهد التلفزيون لساعات طويلة، وأنا لا أجرؤ حتى في لحظات الغضب على نطق التشخيص. حين دخلت البنتان الحجرة، اندهشتا، ومالت كل واحدة منهما على وجه أنوار، تساويان خصلات شعرها، وتقبلان وجهها الناعم والبض، بينما كنت أقف خارج الحجرة، في حالة تسليم تام، كخراج فُتح للتو من تلقاء نفسه، ولأول مرة أراني غير مكترث بإعادة الصديد إلى الجرح مرة أخرى، ولا ببلدة صغيرة تجمعت إثر مشادة عائلية، خارج بيت جميل وهادئ من طبقتين ظلت تنظر إليه بمثالية، تقف أمامه سيارة المصحة التي نزل منها طبيب ومساعداه، وغير مكترث أيضاً وهم ينظرون إلى أنوار التي ستخرج بعد قليل لتركب، بعينين ذاهلتين شبه منومة ومن دون مقاومة تذكر، سيارة، تماماً كما تركب كل يوم سيارة العمل، غير أن هويتها مكتوبة على الجانبين، وعلى الباب الخلفي.