تبدو الحالة الفلسطينية هادئة أو في حالة انتظار غودو! لا مفاوضات ولا حلحلة في وضعية الاحتلال، لا عمل ديبلوماسياً مؤثّر ولا مقاومة تُذكر. واليوم على الحاجز في قلنديا كأمس على الحاجز وكغد، أيضاً. أما جيولوجيا المجتمع الفلسطيني فليست على هذا النحو. فهناك إدراك متزايد أن ما كان لم يوصل إلى باب مفتوح ولا إلى فرج. كل التضحيات الماضية أفضت إلى سلطة وطنية في الضفة الغربية ودولة حماس في غزة وشتات مرتبك وداخل فلسطيني يركض موضعياً لا يعرف إلى أين يسير. وفي الخلفية عالم عربي يتحرك على وقع قضاياه الداخلية وأسئلته التاريخية تاركاً القضية الفلسطينية لنفسها. في الساحة الفلسطينية نُخب تقادمت وشاخت من دون أن تستطيع تحقيق حلم التحرير أو العودة أو بناء الوطن ولو على جزء من فلسطين التاريخية. وفي الساحة الفلسطينية، أيضاً، نُخب طالعة من الخيبات والنكسات أكثر عقلانية وأقلّ شعارية تحاول أن تسمي الأشياء بأسمائها كما تطورت وليس بأسمائها في الأمنية والأهزوجة والمخيال والموروث الثوري والشعبي. النُخب الأولى مأزومة بما صنعته أيديها وما لم تصنعه لكننا لا نستطيع أن نتهمها سوى بسوء إدارة القضية وتصريف أمرها وأمر ناسها. ولا أقترح الذهاب إلى أبعد من ذلك كي لا نكون مجحفين أو جُناة أو قساة قلوب على الطريقة العربية. والنُخب الثانية مأسورة بسقف النُخب الأولى وإن امتلكت قدرات أكبر على اختراق الحالة لجهة تحريك القضية نحو آفاقها وفرضياتها الأولى: تحقيق التحرير وتفكيك ملف اللاجئين وحق العودة. وهو ما أتت به وثيقة استعادة زمام المبادرة التي انبثقت عن مجموعة من المثقفين والنشطاء والفاعلين في الساحة الفلسطينية التي التقت لغرض وضع تصور استراتيجي للمسألة الفلسطينية. وقد أضافت المجموعة التي رأت الشعب الفلسطيني شعباً في كل أماكن تواجده فكرة المساواة في ما يتصل بالفلسطينيين في إسرائيل. أعتقد جازماً أن التفكير السياسي بهذا المستوى الاستراتيجي هو ما تحتاجه المسألة الفلسطينية الآن. هو ما تحتاجه النُخب الشائخة عمراً وفكراً والنُخب الصاعدة أيضاً والشعب الفلسطيني. لا بدّ من استعادة زمام المبادرة بإطلاق مشروع سياسي مفتوح على خيارات وسيناريوات وخطط عمل تستدعيها شروط المرحلة. سيتعيّن على الفلسطينيين أن يدرسوا مجدداً كيف الطريق إلى التحرير وكم من الطرق متوفرة إليه؟ سيكون مجدياً أكثر لو أنهم حددوا خريطة طريقهم وبدائلهم وطرحوها على الإسرائيلي الحقيقي وليس المتخيّل! سيدعي البعض أن «القضية» في ذروة ضعفها ومن الأفضل التريّث ريثما يستعيد العرب جاهزيتهم بعد «الربيع». وهناك مَن بدأ يراهن على مُرسي المصري وكان حتى الأمس القريب يراهن على نجاد والأسد. وأعتقد أنه آن الأوان لتحرير القضية من رهاناتها العربية والإسلامية. كان العرب أقوياء وكانت القضية ضعيفة. والآن يُمكن للقضية أن تتعزز وتقوى بأهلها وحيويتها بينما العرب في ضعفهم أو في انشغالهم. وفي الشعب الفلسطيني ما يكفي من قوى تتجدد كل يوم وتدرك كل يوم وبالطريق الوعرة والشائكة أن ما كان ليس من الضروري أن يكون بعد الآن. المسألة الفلسطينية ألفت نفسها الآن لوحدها. وهذا شرط مثالي للتجدد والمراجعة واستعادة زمام المبادرة. وجدت نفسها وجهاً لوجه مع المسألة اليهودية من دون طبقات أخرى من الصراعات وحلقات أخرى من المواجهات. كأنها خرجت منهكة من كل الأيديولوجيات والعقائد الفلسطينية منها والعربية وصار حملها أخفّ وقدرتها أكبر على التحرك من جديد. النُخب الجديدة حوارية مدنية في توجهاتها كمحصّلة لتاريخ الصراع وتاريخ الثورة ذاتها. وهي عقلانية تفكر استراتيجياً ولا تلوي على مركز عربي أو عقائدي يتداعي أو محور ناشئ. مَن يقرأ في مشروعها الاستراتيجي «وثيقة استعادة زمام المبادرة» سيجد أجوبة عقلانية لأوضاع غير معقولة. وثيقة تصوغ من جديد حدود الشعب وتطلعاته وهي تتقاطع على نحو خلاق مع ما هو متداول. وثيقة لملمت عن أرض الساحة ما تيسّر، فككت وبنت وطوّرت بشكل مشرق مسارات ممكنة وبدائل ممكنة ورسمت سيناريوات غير مستحبة واقترحت مخارج منها. ولم يبق سوى ان تلتقط النُخب الفلسطينية حيثما هي هذه المبادرة وترفعها إلى مستوى التداول والتنفيذ خارج حدود «السيناريو الجاهز» الذي أوصى محمود درويش بكتابة غيره. حالة فلسطينية تبعث على الإبداع وتتناول كل القضايا الوجودية التي ضاعت في ثنايا الصراع ومألوف جرعاته.